أحدث الأخبار
الخميس 28 آذار/مارس 2024
أكاذيب الثقافة… أساطير السياسة!!
بقلم : صادق الطائي ... 28.06.2021

ظاهرة خطيرة شاعت في التعاطي الثقافي العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص، ربما يمكننا تجميلها بإطلاق توصيفات مخففة، أو محاولة تجميلها بكلمات لا تدل عليها بدقة، هذه الحالة بوضوح وبساطة ومباشرة هي شيوع الأكاذيب، والتعاطي معها، بعد أن تشيع وتصبح مسلمات، على إنها حقائق لا يمكن التشكيك بها، وربما كانت جذور الظاهرة، كما سأوضح ممتدة لأكثر من نصف قرن في مشهدنا الثقافي، لكنها اليوم في ظل شيوع التقنيات الرقمية، وهيمنة منصات التواصل الاجتماعي باتت تمثل ظاهرة كارثية لا يمكن إغفالها.
في الوقت نفسه وبموازاة ذلك، يمكننا مشاهدة استفحال ظاهرة «الأساطير السياسية» وللأسباب نفسها، إذ يمكن أن نقول إنها ظاهرة بوجهين، ثقافي وسياسي، ويمكننا ملاحظة انتشار أساطير سياسية حول شخصيات، أو مواقف، أو أحداث قائمة على نظريات مؤامرة تحولت إلى (حقائق) في ذهن المتلقي، نتيجة تكرارها في منصات التواصل الاجتماعي. وقد سلط الضوء على هذه الظاهرة قبل أيام الناقد والأكاديمي العراقي الدكتور حمزة عليوي عندما كتب في صفحته في الفيسبوك «أغلب مقولات المثقفين العراقيين أنا لفقتها ونسبتها لفوكو وهايدغر ونيتشه وغيرهم، هذه الجملة سمعتها ورأيت صاحبها كيف يقولها على إحدى الفضائيات، أتحدث عن فعلة المرحوم خضير ميري.. مرة سمعته يتحدث عن كتاب لنيتشه، ذكر رقم الصفحة ومترجم الكتاب، وبالصدفة كان الكتاب بيدي، فتحت الصفحة ولا أثر للمقولة التي ذكرها. هل كان ميري يعتقد أن المثقفين العراقيين لا يقرأون؟ ربما ، فأغلب ما يسود عندنا هو المقولات والأحكام الشفاهية العامة التي لا يمكن التثبّت منها.
إذا يشخص الدكتور حمزة عليوي في منشوره المكثف، أحد أهم أسباب شيوع هذه الظاهرة، وهو ما سماه (الثقافة الشفاهية) القائمة على السماع، وقد علق بعض الكتاب والمتابعين على المنشور أعلاه، فكتب الشاعر حميد قاسم مثلا «ما يتداول في الثقافة العراقية يتم ضمن هذه اللعبة، استغباء متفق عليه ضمناً، سوّق لنا أسماء مقدسة مثل بقرة الهندوس، حتى تشابه علينا البقر» وهنا ربط حميد قاسم بين وجهي العملة/ الظاهرة، الثقافي والسياسي، إذ يقول «بالمناسبة عندي أمثلة لا تعد ولا تحصى.. خبير قانوني (كما يسمى في التلفزيون) يذكر أرقام فقرات ومواد قانونية ودستورية كما يشاء. ولما شاكسته ذات مرة وقلت له: لا توجد فقرة رقمها كذا بالدستور!
على الجانب السياسي من الظاهرة، تجد ما يحدث مستفحلا منذ زمن، إذ يذكر أحد الشهود «في الأيام التي سبقت ومهّدت لقيام الجبهة بين الشيوعيين والبعثيين عام 1973، كان أحد قياديي البعث يناقش الشيوعيين، فيستشهد بمقولات من رأس المال مع ذكر الصفحة التي وردت فيها، والشيوعيون منبهرون بهذه الثقافة الواسعة التي لا أساس لها من الصحة». ويعلق على هذا الجانب تحديدا الشاعر والمترجم العراقي عبد القادر الجنابي في كتابه «معارك من أجل الرغبة الإباحية» إذ يذكر، وهو شيوعي الانتماء من كتاب الستينيات الثوريين، وقد تحول إلى السيريالية لاحقا، فيقول «لم يكن لنا وعي سياسي واضح، لم نعرف من الشيوعية، التي كثيرا ما ادعينا الانتماء لها، سوى شكلها الستاليني المشوه لحقيقة نظرية الثورة عند ماركس. ولم نعرف حتى تراث حركات الغرب الإبداعية. باختصار لم يكن لدينا النص الذي هو حجر الرحى في بناء حسية متمردة، في الكشف عما هو موجود فينا أصلا، كل ما توفر في تلك الأيام – وما أشبه اليوم بالبارحة – هو تعليقات معلمين مضحكة حول النص الذي قرأوا منه جزءاً مبتسراً في ترجمة مشوهة». هذا التصريح الخطير أحالني إلى حديث مع صديق أكاديمي، وبصراحة هو أحد معلمي الذين تتلمذت عليهم في التعاطي مع الثقافي والنقدي والسينمائي، بما يمتلكه من ثراء معرفي وحصافة أكاديمية، فقال لي مرة متهكما، إن موضة التعلق بشعر آرثر رامبو في الستينيات يعتبر نكتة سوداء في مشهدنا الثقافي، فكل شاعر، أو ناقد أو قريب من المشهد الشعري حينذاك، يحدثك عن شعرية رامبو، وتمرده وصوفيته في رحلته إلى الشرق، مع العلم أنه لم يكن قد ترجم من أعمال رامبو تلك السنوات، سوى بضع قصائد، وأن من يقرأون الفرنسية من الوسط الثقافي العراقي يعدون على الأصابع، إذن كانت المسألة عبارة عن (موضة) يحيط بها ضجيج كاذب. وهذا بالضبط ما يشير له عبد القادر الجنابي ساخرا، في سيرته التي أصدرها تحت عنوان «تربية عبد القادر الجنابي» إذ يقول بوضوح «كان علينا أن نقرأ ما بين السطور لفهم المغزى البعيد الذي ينطوي عليه هذا النص المبتور، والمنتزع من سياقه التاريخي، أو هذه الترجمة التقريبية. وأصبحنا نتكلم عن كتاب صدر في فرنسا أو لندن عبر خبر صغير، أو مقال قصير نشرته هذه الجريدة الإنكليزية أو تلك الدورية التي تباع في مكتبة كورنيت، بحيث لو سمعنا مؤلف ذلك الكتاب لاندهش من معرفتنا (العميقة) بكتابه، بل من إماطتنا اللثام عن أفكار لم يدر أن كتابه ينطوي عليها». كذلك يمكننا أن نلحق بظاهرة (أكاذيب الثقافة وأساطير السياسية) المقولات التي توضع اليوم كبوستات جاهزة، تحوي مقولات لكتاب وسياسيين ومفكرين وفلاسفة وأدباء، ويتم تناقلها بشكل كبير جدا على منصات التواصل الاجتماعي، من دون التأكد من مصداقية نسبها أو دقة محتواها، وبالعودة إلى مفتتح كلامنا عن فبركة الأقوال ونسبها إلى أسماء كبيرة، لابد من الإشارة إلى عبد القادر الجنابي، الذي يمكن أن يعد أحد أهم المفبركين في المشهد الثقافي العربي الحديث، إذ كان يسمي فبركاته بـ»الكتابة اللعبية» ويتعمد نشر نصوص ملفقة في مجلته «النقطة» التي كان يصدرها في باريس. ومن مفارقات الجنابي ما يذكره من أنهم كتبوا على صدر العدد الأول من مجلة «النقطة» الصادر في 15 أيلول/سبتمبر 1982 قولا اعتبر شعارا يزين ترويسة المجلة، ونسبوه إلى الشخصية النهضوية المصرية رفاعة رافع الطهطاوي، والمفارقة أن القول منتشر اليوم بشكل كبير وهو: «الفرق بين الحضارة الغربية والحضارة العربية نقطة، ويا لها من نقطة» ويشير الجنابي إلى أن بعض النقاد أخذوا يستشهدون بها على أنها فعلا للطهطاوي. كل ذلك كان، في زمن سابق على زمننا الذي شهد ولادة من يمكن وصفهم بمثقفي الـ»ويكيبديا» وسياسيي «كبسولات الإنترنت والفيسبوك» التي نفخت الكثيرين وجعلتهم يعتقدون إنهم حقا محللون استراتيجيون.

*كاتب عراقي**المصدر : القدس العربي
1