أحدث الأخبار
الأربعاء 25 كانون أول/ديسمبر 2024
لبنان: «ثورة أكتوبر» يجب أن تستمر !!
بقلم :  ريما ماجد * ... 27.10.2019

لدى لبنان فرصة ذهبية لتشكيل بديل ويجب أن نمنع الطبقة الحاكمة من تدوير نفسها تحت مسميات أخرى. انفجرت «شوارع» لبنان باحتجاجات حاشدة منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول. فبعد أشهر من التقشف والظروف الاقتصادية القاسية ونقص في قيمة الدولار الأمريكي أدت إلى تهديد تمثل بخفض قيمة العملة اللبنانية وأزمة محتملة في البنزين والخبز ومع استمرار انقطاع الكهرباء والمياه وأسبوع كارثي من حرائق الغابات التي دمرت البلاد وفضحت الطبقة الحاكمة اجتمعت الحكومة ووافقت على فرض ضرائب جديدة على الناس، بما في ذلك فرض ضريبة على مكالمات الواتساب. في حين أن أسباب الانتفاضة لا تنحسر فقط بالضريبة على وجه التحديد، فإن معظم اللبنانيين كانوا ينظرون إلى الضرائب التي تم الاتفاق عليها حديثًا (والتي تم الغاؤها لاحقًا بعد ضغط الشارع) على أنها انعكاس «مبتذل» لإهمال الحكومة التام لمصاعب الناس ومنحها الأولوية لحماية مصالح الطبقة العليا الحاكمة على حساب غالبية السكان.
وبذلك كان اجتياح الاحتجاجات الجماهيرية البلاد أمرا متوقعا. كان لبنان شهد في تاريخه الحديث «فورات شارع» مماثلة وهائلة ضد الطبقة الحاكمة (مثلا في عام 2015). لكن «ثورة أكتوبر/تشرين الأول في لبنان لعام 2019 تمثل نقطة تحول مهمة في التاريخ السياسي المثير للجدل لحقبة ما بعد الحرب الأهلية. فبعد ما يقارب ثلاثة عقود من السياسات النيوليبرالية، التي أدت إلى تعميق الانقسامات الطبقية، خرج الناس إلى الشوارع هذه المرة للتنديد بالطبقة الحاكمة التي تقف حامية للنيوليبرالية ومصالحها الطبقية الخاصة، بما يتجاوز الانقسامات الطائفية التي هي عادة تكتيك فعال ينشره القادة لتقسيم الشارع. وخلافا عن سابقاتها بدأت الثورة من الطبقات الفقيرة، من العاطلين عن العمل أو العاطلين جزئيا والتي هي عادة العمود الفقري والشريحة الانتخابية للأحزاب الطائفية المهيمنة من خلال شبكات معقدة من الزبائن التي انقلبت ضد رعاتها.
هذه المرة لم يختلف فقط تكتيك الاحتجاج عن الحركات السابقة من حيث حواجز الطرق والعصيان المدني، ولكن نطاق الاحتجاج أوسع أيضًا مع مناطق مثل البقاع، طرابلس، النبطية، صور وزوق وبأعداد هائلة. كما اختلف معجم الهتافات بلعنات وشتائم على السياسيين الذين يشكلون الجزء الأكبر من الشعارات. لا بل ويتردد صدى مثل هذه الهتافات بين الغالبية العظمى من المتظاهرين في الساحات، والذين كان الكثير منهم قد رفضوا وشجبوا هذه الشعارات قبل بضع سنوات مما يعكس مستوى شديدا من الغضب يمكن أن يتحدى السلطة والأخلاق حتى بين الطبقات الوسطى. هذه الاختلافات في الحركة الحالية مقارنة بالحركات السابقة ليست تفاصيل إنما تعكس تحولات اجتماعية أعمق وصلت إلى أقصى حد وانعكست في تطرف الحركة. أظهرت عمليات التعبئة في الأيام القليلة الماضية بداية ظهور تحالف جديد قائم على «الطبقة»؛ العاطلين عن العمل والعاطلين جزئيا والطبقة العاملة والطبقات المتوسطة ضد الأوليغاريشية الحاكمة – أو ما يعرف بحكم الأقلية – وهذا هو التقدم المفاجئ.
وعلى الرغم من محاولات النظام لعب الورقة المعتادة بالحديث عن «المندسين» ووجود «طابور خامس» (والذي في معظم الحالات هو النظام نفسه)، من المثير للإعجاب مدى ضآلة تأثير هذا الخطاب على المحتجين حتى اللحظة. ولا يعني هذا أن مثل هذا الخطاب قد تم القضاء عليه تمامًا واستبعدت مثل هذه السيناريوهات ولكن من المهم تسليط الضوء على الوعي الطبقي الناشئ حديثًا والذي يركز على استهداف النخب الحاكمة بدلاً من تقسيم نفسه. وربما يمثل هذا الوعي الطبقي الجديد نقطة التحول الأكثر أهمية في تاريخ النزاع اللبناني بعد الحرب إذا أمكن إدامته وتنظيمه في الأسابيع المقبلة.
وفي حين أن الآمال كبيرة والمشاهد من الشوارع مثلجة للصدر هناك ثلاث نقاط مهمة على الحركة ان تأخذها بنظر الاعتبار من أجل دفع هذا التقدم المفاجئ إلى الأمام:
• التنظيم: لقد بدأ هذا بالفعل وهو يتخذ أشكالًا مختلفة، ومع ذلك لا تزال الحركة بحاجة إلى تطوير تنظيمها بدون الابتعاد عن وجود قيادة. إن الحركات بلا قيادة غير مستدامة ونادراً ما تقترح بدائل واضحة. وفي الواقع أنها ليست فعلا «بلا قيادة». ففي مثل هذه الحالات تبقى القيادة غير المعلنة وراء الكواليس فيما تقوم بتنسيق الحركة بدون الخضوع للمساءلة. وعادةً ما تكون هذه «القيادة غير المعلنة» هي المجموعات الأكثر تنظيمًا وتلك التي لديها أكثر الوسائل المالية لتغطية تكاليف مكبرات الصوت والنقل وتوزيع المواد الغذائية والمياه، إلخ. ومع ذلك لا تحتاج قيادة الحركة إلى أن تكون هرمية للغاية وتقليدية أو أفقية تماما ومخفية. إن ظهور قيادة جديرة بالثقة يمكن أن تمثل قطاعات كبيرة من المتظاهرين وتنسق على المستويات المناطقية وتسلط الضوء على أولويات الفترة الانتقالية أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الحركة إلى ما بعد تعبئة الشارع في الأسابيع الأولى.
لقد حان الوقت لكي ترى المعارضة في لبنان نفسها كمعارضة فعليه وأن تنظم مجموعات مختلفة على أساس مصالحها الاجتماعية والاقتصادية وأن تنسق معًا (وهو ما تتفوق فيه الأوليغاريشية الحاكمة). في أوقات مثل هذه الفورات في الشوارع، نأسف لعدم وجود تنظيم سابق ونشعر بالحاجة إلى تفعيل وتوسيع شبكاتنا بشكل أفضل. إن إعادة تنشيط وبناء نقابات جديدة، والتنظيم في أماكن عملنا، والتنظيم كعاطلين عن العمل، والتنظيم كنساء، والتنظيم في أحيائنا، والتنظيم كطلاب، إلخ، كلها أشكال مهمة للتنظيم يمكن أن تشكل سقالة للفترة المقبلة. ويوجد بالفعل بعض أشكال هذا التنظيم، مثل المجموعات النسوية ومجموعات الطلاب، وهي من بين أجمل جوانب هذه الانتفاضة، لكن هناك حاجة إلى المزيد من التنظيم وأن المزيد من التنسيق هو أمر حاسم بين مختلف المجموعات وبين مختلف مناطق البلاد.
• رفع مطالب ثورية واضحة ومحددة بما فيه الكفاية. هناك العديد من المطالب في الشارع، لا سيما الاجتماعية والاقتصادية بالطبع، ولكن الحركة لم تضع مجموعة واضحة من المطالب التي يمكن أن تشكل بديلاً مرغوباً ومقنعا. هذه ليست دعوة إلى «البراغماتية» – الواقعية، بل هي دعوة للمطالب التقدمية لتسيطر على بعض المطالب الشعبوية اللبنانية التي أصبحت واسعة الانتشار في الشارع. تعد دعوات العديد من المحتجين لسيطرة الجيش من بين أخطر المطالب التي تدور حولها. من المؤسف أننا ما زلنا بحاجة إلى كتابة هذه السطور في عام 2019 بعد كل ما رأيناه في المنطقة العربية من حيث تدخلات الجيش في الانتفاضات. من المثير للسخرية أيضًا أن نتحدث عن سيطرة الجيش أو حكم عسكري في بلد يكون فيه الرئيس الحالي (ميشال عون) قائدًا سابقا للجيش والقائد الحالي للجيش (جوزيف عون) قريبه (من بعيد) وبصورة غير مباشرة مؤيد للرئيس. ناهيك عن أن الجيش اللبناني (وليس فقط قوات الأمن) هو الذي أطلق أكثر عمليات القمع عنفا ضد المتظاهرين مساء الجمعة. كيف يمكننا الوثوق في جيش يدافع عن الطبقة الحاكمة ويستخدم العنف الوحشي ضد المتظاهرين؟ هناك نوع آخر من أشكال الشعوبية التي تنتشر في الشوارع، وهو انتشار الشعبوية اللبنانية بشكل واضح في الأعلام وتكرار النشيد الوطني (وغالبًا ما يكون مصحوبًا بـ «التحية النازية») والأغاني القومية من عام 2005 التي يتم تشغيلها طوال اليوم من المتحدثين الصاخبين لبعض المجموعات، مما يجعل الأصوات الأكثر تطرفًا وتقدميًا أقل سماعًا بالتأكيد. إن من الرائع أن يتفوق الشعب اللبناني على الانقسامات الطائفية، لكن النزعة الشعبوية اللبنانية ليست بالضرورة عكس الطائفية، كما أنها ليست علامة تقدمية. هذا هو الخطاب الشعبوي نفسه الذي يبرر العنصرية ضد اللاجئين السوريين أو الفلسطينيين – وهو خطاب صاغته ونشرته النخبة الحاكمة التي يحتج الناس ضدها (بطل هذا الخطاب العنصري الشعبوي هو أكثر الأسماء التي ورد ذكرها في هتافات المحتجين: الوزير جبران باسيل). هذا منحدر زلق لا يجب أن نقع فيه. ما دفع الناس للاحتشاد بملايينهم ليس الافتقار إلى الوحدة أو الوطنية، بل هو غياب العدالة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
دعنا نركز على ذلك لأن هذا هو القاسم المشترك الوحيد بين 1.2 مليون شخص تم حشدهم حتى الآن. يمكن أن تشمل هذه المطالب الاجتماعية والاقتصادية: (1) قطع رواتب الرؤساء الحاليين والسابقين والنواب والوزراء وكبار المسؤولين. (2) مطالبة البنوك اللبنانية بالتخفيف من الدين الوطني الذي استهلك معظم ميزانية الدولة في العقود الثلاثة الماضية. (3) فرض ضرائب تدريجية . (4) حل فوري لمشاكل الكهرباء والمياه (على حساب عصابات الشركات الخاصة من المولدات وموردي المياه). (5) المطالبة بحلول بيئية ومستدامة لإدارة النفايات، إلخ. يمكن أن تظهر مطالب أخرى على المستوى المناطقي تتعلق بخصوصية كل منطقة في البلد. على المستوى السياسي، يطالب بعض المتظاهرين باستقالة الحكومة ويطالب آخرون باستقالة الرئيس، كما يطالب الكثيرون بالاثنين معا». على الرغم من أنني لست مقتنعة شخصيًا بأن الاستقالات ستؤدي إلى تغيير فعلي (إنه عمل تجميلي يمكن أن يعطي انطباعًا بالنصر في الشوارع بينما يعيد النظام بناء نفسه)، فمن المهم أن تكون مطالب الاستقالة مصحوبة بمطالب المقاضاة والمحاكمات.
لا نريد أن تستقيل الطبقة الحاكمة وأن تكون قادرة على الإفلات من جرائمها، بل نريد العدالة. يجب أن يخضع قضاة لبنان (كثير منهم لعب دورًا تاريخيًا في حماية الطبقة الحاكمة) للمساءلة والضغط لممارسة دورهم. صدر بيان مهم يوم الجمعة من قبل جمعية القضاة اللبنانيين يعلن وقوفهم إلى جانب الشعب ضد الطبقة الحاكمة. هذا البيان يجب أن يؤخذ على محمل الجد ويتم العمل به.
• خطر الاحتواء والامتثال لا زال قائما. صحيح أن هذه الانتفاضة مذهلة في الكيفية التي انقلبت بها الجماهير الانتخابية للأحزاب السياسية ضد قادتها، إلا أن مخاطر الاحتواء والامتثال ما زالت قائمة (حتى لو كانت أقل احتمالًا من السابق). تبنت الطبقة الحاكمة بكل أشكالها الخطاب نفسه حتى الآن في مخاطبة المحتجين: «أنت على حق»، «نحن نفهمك»، «نشعر بك»، ولكن «احذر». حتى التحرك الواقعي لوزراء القوات اللبنانية لتسليم استقالتهم إلى رئيس الوزراء هو ليس بالأمر المختلف. لقد اعترفوا جميعًا أنهم مخطئون، ويحاول كل منهم احتواء شارعه بطريقته الخاصة.
بدأت مهلة الـ 72 ساعة التي أعطاها رئيس الوزراء لنفسه (يا للسخرية!) بالقمع الشديد في الشوارع ومئات الاعتقالات. تبع ذلك في اليوم التالي هجوم عنيف في مدينة صور الجنوبية على متظاهرين سلميين من قبل رجال ميليشيات تابعة لحركة أمل. هذه هي بوادر التغيرات المرتقبة بعد إنذار 72 ساعة! أمل الطبقة الحاكمة في قتل الحركة بالعنف هو تكتيك قديم. يمكن أن يتخذ هذا العنف شكلا مباشرا متمثلا بعنف قوات الأمن أو عنف الجيش واعتقالاته، أو يمكن أن يكون عنفًا غير مباشر من الدولة من خلال «البلطجية» و»رجال الميليشيات» (كما راينا في «بلطجية» مصر أو سوريا). على الرغم من أن هذا قد لا يجدي نفعا بشكل كامل هذه المرة، إلا أن النظام عادة ما يستخدم العنف جنبًا إلى جنب مع أدوات الاحتواء الأخرى مثل شبكات الزبائنية. لا يهدد الزعماء الطائفيون الناس في وظائفهم والمنح الاجتماعية فحسب، بل يهددون أيضًا بإزالة الحماية عنهم ومتابعة الأشخاص الذين يعارضونهم (خاصة إذا ظلوا في السلطة، كما في عام 2015). إن التفكيك الكامل لشبكات الزبائنية لا يمكن أن يحدث إلا بتفكيك نظام التوافقية الطائفية الممزوج بالنيولبرالية بالكامل.

*كاتبة لبنانية..المصدر : الفدس العربي
1