أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الخلاص الفلسطيني والعربي : الخيار الوحيد !!
بقلم :  د. لبيب قمحاوي  ... 14.03.2019

خلاصة القول يتمثل في المقولة القديمة بأن ما يصيبك ولا يقتلك يجعلك أقوى. وما سوف يقتل الفلسطينيين والعرب هو نهج القبول والخضوع والإستسلام لواقع القوة الإسرائيلية ، وما سوف يجعلهم أقوى هو الرفض القاطع المانع للخضوع لذلك الواقع .
كلما ضربت إسرائيل بأقصى ما لديها في عمق الآمال والأهداف الوطنية الفلسطينية ، والمصالح القومية للأمة العربية ، وفشلت في فرض إرادتها وأهدافها ، كلما قَلَّت خياراتها خصوصا إذا ما تمكن الفلسطينيون من إستيعاب كل ضربة وتجاوز آثارها دون أن يؤدي ذلك إلى إستسلامهم أو خضوعهم بأي شكل وأي طريقة . فكلما إزداد الرفض والصمود الفلسطيني والعربي ، كلما إزداد في المقابل إحساس الإسرائيليين بالإحباط المتنامي نتيجة الافتقار إلى القدرة على فرض خياراتهم على الفلسطينيين وإرغامهم على القبول بها وإقتناص الشرعية التي يسعوا إليها من خلال إستسلام فلسطيني كامل .
إن الأوضاع السائدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، بإستثناء قطاع غزة ، تعكس رؤيا ونهج السلطة الفلسطينية في تكريس مفهوم "الإحتلال الهادئ" ، وهو مفهوم شاذ يتناقض مع رؤيا أي شعب حيّْ . فالشعوب الحية لا تقبل بإحتلال أوطانها، وإذا ما حصل ذلك لأي سبب من الأسباب فإنها تقاوم ذلك الإحتلال بإستمرار وبكافة السبل والأساليب التي تجعل من كلفة الإحتلال أمراً باهظاً على الإحتلال نفسه ، وتهدف إلى التحرير ، وإلى أن يتم ذلك ، إلى جعل الإحتلال حالة مؤقته لا تحظى بأي فرصة للهدوء أو للقبول أو للديمومة . والشعوب غالباً ما تثور ضد أي إحتلال ، وبالتأكيد تثور بشكل أكثر عنفا ضد الإحتلال الإحلالي الذي يهدف إلى إستبدال الشعب الأصلي بشعب غريب مستورد .
"الإحتلال الهادئ" هو العدو الأكبر للفلسطينيين بعد الإحتلال نفسه. فالإحتلال الهادئ يعني الإستسلام للأمر الواقع والقبول به مما قد يعطي الآخرين إنطباعاً خاطئاً بأن الإحتلال قد أصبح مقبولاً كأمر واقع، أو بأن مقاومة الإحتلال لم تعد أولوية في البرنامج الوطني الفلسطيني كما هو عليه الحال الآن مع السلطة الفلسطينية وكيفية تعاملها مع الإحتلال وتعاونها الأمني معه . وهذا الوضع قد يُفْقِد العالم أية حافز لمحاولة حل موضوع الإحتلال وفرض تسوية ما ، خصوصاً وان ما يُحَفِّز العالم ويدفعه إلى التدخل هو وجود بؤر التَوَتُّر والنزاعات المسلحة .
إن إستمرار مفهوم " الإحتلال الهادئ " سوف يدعم النظرية الإسرائيلية أمام العالم بأن فلسطين أرض يهودية وهي بالتالي غير محتلة وأن أقصى ما يستحقه الفلسطينيون كأقلية في الدولة اليهودية هو حكم ذاتي تحت الرعاية والسيادة الإسرائيلية . إن مفهوم "الإحتلال الهادئ" من شأنه أن يرسل إشارات خاطئة إلى العالم الخارجي ، وحتى إلى العرب الراغبين في تصديق ذلك ، بأن الفلسطينيين راضون بالإحتلال وأن أقصى ما يريدونه هو بعض المكاسب والحقوق وليس بالضرورة إزالة الإحتلال . وهذا قد يكون أحد الأسباب وراء تراجع القضية الفلسطينية من سُلَّم الإهتمام الدولي .
"الإحتلال الهادئ" قد يشجع المزيد من اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين على أساس أن الوضع هادئ والأمن مستتب ولا توجد أية مخاطر نابعة من حالة عدم الإستقرار الناجمة عن الإحتلال . وهذا من شأنه أن يخلق وضعاً كارثياً يؤدي إلى تعزيز هجرة المزيد من اليهود إلى فلسطين وإلى إنشاء مزيد من المستعمرات فيها . لقد جاءت هيمنة اليمين الديني الصهيوني على الحكم في إسرائيل كنتيجة مباشرة لتشجيع هجرة المزيد من اليهود المتعصبين إلى فلسطين ، وهذا الوضع في مجمله قد جعل مِنْ جنوح النظام السياسي الإسرائيلي نحو أقصى اليمين،ومِنْ التقدم بالمزيد من السياسات والقوانين الإسرائيلية العنصرية ، أمراً محتوماً .
إن إصرار الفلسطينيين والعرب على رفض الإستسلام للهيمنة العسكرية الإسرائيلية والضغوط السياسية والحياتية المرافقة لها ، ورفض التعامل معها من منطلق الخضوع للأمر الواقع ، قد يُشكل بداية سقوط الخيارات الإسرائيلية ، خصوصاً إذا ما استعملت إسرائيل أقصى ما لديها من قوة ولؤم وجبروت لفرض إرادتها وفشلت فيما تسعى للوصول إليه . ان النجاح في إستنفاذ ما لدى العدو من مخزون الجبروت والأذى وجَعْلِهِ بلا طائل سوف يضعه أمام خيار واحد وهو البحث على حل لمعضلة وجوده وبقائه إذا ما فشل في الإستمرار في فرض إرادته سواء بقوة السلاح أو بقوة الأمر الواقع، وإذا ما إستمر الفلسطينيون برفض ذلك الواقع بشتى الأساليب .
إن رفض الفلسطينيين للقبول بإجراآت الإحتلال الإسرائيلي بغض النظر عن موقف السلطة الفلسطينية يبقى هو الأمر الأهم ، وبالتالي إعتبار الرفض بأشكاله المختلفة شكلاً من أشكال المقاومة . فالمسارات المختلفة تُكمل بعضها البعض ولا يُغني أي مسار عن الآخر ، وهذا يعني أن السعي إلى تكامل المسارات ضمن إطار المفهوم العام لمقاومة الإحتلال هو أمر صحي ومطلوب ومتعارف عليه ويعكس تعددية طبيعية في تبني نهج مقاومة الإحتلال بشتى الطرق والأشكال .
الموقف الفلسطيني إذاً هو الأساس والمُرشِد للموقف الجماهيري العربي ، وهو السَدَّ أمام إندفاع الأنظمة العربية نحو التنازل لإسرائيل والإستسلام الطوعي المستند إلى حالة التفكك والإنهيار الذاتي الداعم لتلك التنازلات . ان موقف الشعب الفلسطيني المعارض لأي تسوية بما في ذلك صفقة القرن والتنازلات المجانية سوف يَفْصِل موقف الشعب الفلسطيني عن موقف السلطة الفلسطينية وسوف يعطي الشعوب العربية مؤشراً واضحاً على حقيقة الموقف الفلسطيني من تلك التسويات . المحافَظَة على قوة وثبات وترابط الموقف الجماهيري الفلسطيني ورفضه لإرادة الإحتلال يبقى أساسياً لمنع التنازلات العربية بإسم الفلسطينيين ، آخذين في الإعتبار أن التحديات الخارجية التي يجابهها الفلسطينيون ، وأهمها الإحتلال الإسرائيلي ، هي عوامل توحيد للمجتمع الفلسطيني المقهور ، في حين أن التحديات الداخلية وخصوصاً الإنقسام الفلسطيني الحاصل بين فتح وحماس هي عوامل فُرْقَة وتَمَزُّق من شأنها إضعاف موقف الفلسطينيين .

الفلسطينيون ، خصوصاً في منطقة غزة في الجنوب الفلسطيني ، أظهروا قدرة مستمرة على الصمود وعلى رفض الانصياع لإرادة سلطات الإحتلال على الرغم من المنحى الإستسلامي المتواطئ للسلطة الفلسطينية وعلى الرغم من إستعمال إسرائيل الوحشي والمتكرر لأقصى درجات العنف والعديد من وسائل التدمير العسكري في عدوانها على المدنيين وتحت مختلف الذرائع بهدف كسر إرادة الفلسطينيين هناك . إن صمود سكان منطقة غزة لم يقف عند حدود الرفض ، بل تجاوز ذلك إلى فرض قواعد إشتباك جديدة في جهود مقاومة الإحتلال ومقارعته بطرق تتراوح بين الإحتجاج والتصدي والتحدي ومقاومة إجراآت سلطة الإحتلال .
يتعرض العالم العربي والفلسطينيين إلى مخاطر وهواجس مرتبطة بما أصبح يدعى بصفقة القرن وتداعياتها السلبية المتوقعة على القضية الفلسطينية وعلى العرب بشكل عام . تهدف صفقة القرن في أصولها إلى تكريس الأمر الواقع وإضفاء الشرعية على إستعمار فلسطين بإعتبارها أرضاً للشعب اليهودي ووطناً له . وهذا الأمر لم يكن ليصبح ممكناً لولا الهدوء الذي يسود الضفة الفلسطينية المحتلة وحالة الإنقسام الفلسطيني والإنهيار العربي . ومن هنا تأتي خطورة الجهود الإسرائيلية لفصل منطقة غزة عن منطقة الضفة بهدف فصل مناطق "الإحتلال الهادئ" عن مناطق الإحتلال الملتهبة وحتى يصبح تطبيق النظريات والسياسات المرافقة لصفقة القرن ممكناً .
الموقف العربي العاجز أو غير الراغب في مجابهة ما هو قادم من حلول من خلال صفقة القرن هو أقرب ما يكون إلى موقف المتآمر الصامت أو شبه الصامت. ما نحن مقبلون عليه من خلال صفقة القرن هو محاولة بعض الأنظمة العربية هدم جدار العداء العربي لإسرائيل ، وإذا أمكن تحويله إما إلى عداء للفلسطينيين أو كره لهم كمبرر لذلك الإنحراف في الموقف تجاه العدو الإسرائيلي . الأردن قد يكون أكثر الدول العربية تأثراً بما يجري في فلسطين وللفلسطينيين ، وهو بذلك صاحب مصلحة حقيقية في طبيعة ما يجري . وهذا لايعني إعطاء الأردن الحق في الموافقة والقبول ، وإنما العذر والحق في الرفض والإمتناع لأن الأردن سوف يُصاب بنفس القَدَرْ من الأذى الذي سيصيب الفلسطينيين . وفي هذا السياق فإن المصلحة الوطنية الأردنية تتطلب دعم الجهود الشعبية الفلسطينية الهادفة إلى تحويل الإحتلال الهادئ إلى إحتلال ساخن متفجر من خلال توفير الدعم لكافة أشكال المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين وبما يؤدي إلى إرغام العالم على السعي نحو إيجاد حل يلبي الطموحات والمطالب الوطنية الفلسطينية ، وفي ذلك دفاعاً حقيقياً عن المصالح الوطنية الأردنية على إعتبار أن فلسطين والفلسطينيين هم خط الدفاع الأول عن الأردن وعروبته . أما بخلاف ذلك فإن الأردن في طريقه إلى دفع الثمن وسوف يصبح تابعاً للإملاآت الإسرائيلية سواء رضي بذلك أم لا .
إن وحدة الموقف الفلسطيني خصوصاً في رفض صفقة القرن جملة وتفصيلاً، ورفض القبول بها أو بنتائجها يبقى هو الأساس وهو الضمانة لعدم التفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية . ويجب العمل بالتالي على مقاومة أي محاولة لإغراء الفلسطينيين بمكاسب مادية ، خصوصاً بعد أن حَوَّلت السلطة الفلسطينية دورها كقيادة فلسطينية من النضال من أجل التحرير ، إلى العمل على تأمين الرواتب لموظفي السلطة ، وحَوَّلت أولويات القضية الفلسطينية بذلك إلى قضية حقوق مالية عوضاً عن كونها قضية حقوق وطنية .
وتبقى عناوين الصمود والنضال ضد الإحتلال ورفض مفهوم "الإحتلال الهادئ" والحلول الإستسلامية والتنازلات الطوعية ، وضرورة إعادة بناء الموقف العربي والفلسطيني المناهض للصهيونية هي العناوين الحقيقية للمرحلة المقبلة .

1