أحدث الأخبار
الاثنين 09 كانون أول/ديسمبر 2024
نظام دولي جديد : عوامل التغيير والتعرية!!
بقلم : د. لبيب قمحاوي ... 02.06.2019

الكثير مما قد يعتبره البعض حادثاً عادياً أو أمراً عَرَضِياً ربما يكون في نتائجه وتبعاته مؤشراً إما على بداية انهيار وضع قائم، وإما على تولُّد استراتيجيات دولية جديدة، وإما على بداية تغييرات دولية مختلفة قد تعصف جزئياً أو كلياً بالأوضاع وبالتحالفات الإقليمية والدولية القائمة. ما يجري الآن ربما يكون في حقيقته مؤشراً على بداية انهيار النظام الدولي الحالي، والتوجه نحو نظام جديد يستند إلى أسس وضوابط وأهداف جديدة ومختلفة؛ قد يكون أهمها شح الموارد وازدحام العالم بشكل متنامٍ يجعل من المنافسة على الأسواق والموارد الطبيعية وعوائد التكنولوجيا المتقدمة الأساس الأهم – إن لم يكن الوحيد – لتحديد المصالح المشتركة أو المتعارضة في العلاقات الدولية. ومع أن عوامل التغيير ما زالت قيد التكوين، إلا أن التنافس على الموارد الطبيعية المتناقصة والأسواق التي أصبحت مفتوحة أمام التدفق الكوني للتكنولوجيا الرقمية ومنتوجاتها، إضافة إلى الزيادة المطّردة للسكان، ما زالت هي الثوابت التي تترجم نفسها على هيئة مصالح لها الأولوية في عملية التغيير المقبلة.
ما زالت الأسس الحاكمة للنظام الدولي السائد والعلاقات بين الدول تعكس – وإن بشكل متناقص – أهمية المصالح الوطنية كما تمثلها الدولة الوطنية التقليدية ضمن إطار النظام الدولي الحالي، وما فيه من ضوابط وقيود تتم ممارستها من خلال الأمم المتحدة ومؤسساتها والقانون الدولي المعمول به والناظم للعلاقات بين الدول والمؤسسات الدولية المرتبطة به أو المنبثقة منه. وهذا القانون يستند في أصوله إلى أولوية الحق بعد سقوط النظام الدولي السابق عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي خاضها العالم نتيجة لمحاولة بعض الدول تطبيق مبدأ أولوية القوة على أولوية الحق؛ باعتبار أن القوة المسلحة هي منبع السيادة والإطار الحامي والضامن لها ولمطالبها ومصالحها وليس أي شيء آخر.
تشهد الحقبة الحالية وما فيها من تطورات ومسارات جديدة في السياسة الدولية وفي العلاقات بين الدول البدايات المبكرة لانهيار الأمم المتحدة، وكذلك القانون الدولي المستند إلى أولوية الحق، دون وجود أي اتفاق دولي على البديل. وما ساهم في تسريع هذه البدايات هو التصرف غير المسؤول للإدارة الأمريكية الحالية في استعمال قوتها وجبروتها لدعم نهج أولوية القوة، وفي استعمال حق الفيتو لدعم السلوك العدواني لها ولحلفائها حتى ولو تعارض ذلك مع القانون الدولي. وقد أدى هذا في النتيجة إلى إضعاف متزايد لصدقية الأمم المتحدة وفعاليتها وقدرتها على التعبير عن مبادئ وضوابط النظام الدولي السائد.
يَعتبر النظام الدولي الحالي العدوانَ المسلح أمراً خارجاً عن نطاق القانون الدولي ومفاهيمه وأهدافه، مع أن ذلك لم يؤدِّ إلى وقف ذلك النمط من الحروب – وإن كان قد ساعد على الحد منها – بوصفها نهجاً يتعارض مع جنوح النظام الدولي السائد للعمل على حل النزاعات بالطرق السلمية. وقد أسهم هذا الوضع في خلق درجة معقولة من التوازن في كيفية معالجة النزاعات الدولية، وإن كان تطابق المصالح بين الدول المعتدية وبعض الدول الكبرى قد أدى في مناسبات متعددة إلى إضعاف قدرة الأمم المتحدة على فرض ما يكفي من الضوابط أو العقوبات لمنع النزاعات المسلحة أو الحد منها، وخصوصاً عندما تلجأ تلك الدول إلى استعمال حق الفيتو لوقف أي إجراءات عقابية أو رادعة للمعتدي.
من غير المتوقع أن تتم عملية إضعاف النظام الدولي السائد ومؤسساته بسرعة أو فجأة، بقدر ما ستتم تدريجياً وبصورة تراكمية وعلى مدى زمني طويل، لأن ذلك هو المسار التاريخي لعمليات التغيير الدولي؛ كون البديل سيكون من خلال استعمال القوة الفاحشة ذات البعد الكوني لفرض مثل ذلك التغيير بصورة سريعة، كما حدث عقب الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثانية.
أكبر ضحايا التآكل المستمر والضعف المتزايد في بنية النظام الدولي السائد هم الدول الضعيفة ذات الأنظمة السياسية الشكلية والمستبدة والبنية الاقتصادية التي تخلو من مضمون حقيقي أو مؤسسية فاعلة. وهذه الدول عادة ما تصبح الضحية المبكرة والسهلة لعوامل التغيير السلبية. والوطن العربي – بوضعه الحالي المفكك والمتهرئ – هو مرشح طبيعي لأن يكون من أوائل الضحايا، وخصوصاً بعد أن أصبحت معظم دوله خاضعة لأنظمة حكم مستبدة وللنفوذ المباشر أو غير المباشر للقوى الأخرى المهيمنة إقليمياً أو دولياً، والتي قد تتعارض مصالحها مع مصالح الوطن العربي ككل أو كدول.
إن ما نحن بصدده يجعل من الهوية الوطنية أو الولاء القومي أو العقائدي أو الديني مفاهيم متآكلة تتميز بتنامي ضعف تأثيرها في الأحداث وأحياناً في القناعات السياسية للمواطن العادي، بوصفها شيئاً قيد الزوال، تتضاءل قيمتها تدريجياً في موازين الحسابات الدولية المؤثرة، ويصبح التعامل من خارج إطارها أمراً مقبولاً ضمن المفاهيم الاستراتيجية الجديدة. وهكذا تصبح المصالح المادية المشتركة، أو المتبادلة، هي الوعاء الجديد الحاضن للشعوب في إعادة تعريف وتكوين مصالحها المشتركة وتحالفاتها وعلاقاتها مع بعضها بعضاً، وذلك عوضاً من الرابطة الوطنية أو القومية أو الأيديولوجية أو الدينية. هنا يبرز السؤال الأهم المتعلق بمستقبل الهوية الوطنية والدولة الوطنية، وما إذا كان هنالك في المدى المنظور عالم جديد يفتقر إلى الهوية الوطنية ويتعامل مع الدولة الوطنية على أنها شيء من الماضي. وإذا كان هذا ما نحن بصدده، فما البديل للدولة الوطنية؟ وما مصير العرب وهويتهم القومية؟
هل من الممكن أن يصبح لدينا عرب بلا عروبة؟ وهل بقاء العرب، سواء كشعوب أو كأمة، مرتبط بالعروبة كإطار أيديولوجي وكرابطة قومية؟ أم أن الأحداث سوف تتجاوزها إلى الحد الذي قد يحول العروبة إلى صفة مجازية لا تعني شيئاً محدداً، وتصبح الرابطة بين العرب مثـلاً رابطة مادية مصلحية متذبذبة ومتغيرة، خالية من الثوابت والخطوط الحمر، عوضاً من كونها رابطة إنسانية حضارية أيديولوجية تصب في عمق التاريخ؟
إن استمرار أنظمة الاستبداد العربية بأولوياتها، المتعارضة في معظم الأحيان مع أولويات الشعوب، تعني عملياً استمرار حرب البقاء والوجود بين الأنظمة والشعوب واستفحال آثارها السلبية مع تنامي قوة الأنظمة وضعف الشعوب. وهذا قد يؤدي بالنتيجة إلى تحوُّل الدول إلى مَزَارع للأنظمة، والأوطان إلى مساحات جغرافية تضيق أو تتسع حسب رؤية النظام الحاكم المستبد؛ وهو ما قد يكون عامـلاً إضافياً ضاغطاً في اتجاه إضعاف الهوية الوطنية والانتماء القومي واستبدالها بمفاهيم مثل الولاء للنظام الحاكم عوضاً من الولاء للوطن.
إن الإصرار على الالتصاق بالهوية الوطنية والإطار القومي قد يكون رداً عربياً ذاتياً ومتوقعاً لحماية مفاهيم وأطر سياسية تقليدية اعتادها العرب وقبلوها، وهو ما قد يعطيهم شعوراً بالأمان والاستمرارية. لكن سلوك الأنظمة العربية الحاكمة لا يسير في هذا الاتجاه نفسه، بل تحكمه عوامل وسياسات مصلحية قد تكون أكثر التصاقاً بما يريده العالم الخارجي والقوى المؤثرة فيه، التي تسير حثيثاً في اتجاه نظام عالمي جديد ومنظومة جديدة من القيم والعلاقات بين البشر.
إن تحول الدول من كونها تعبيراً عن الذات الوطنية، إلى ملجأ للشعوب القاطنة فيها، سوف يعني بالضرورة تآكل الإحساس بالانتماء الوطني والرابطة الوطنية وتحولها إلى رغبة متنامية في تأمين لقمة العيش والأمن والاطمئنان والاستقرار؛ حتى ولو كان ذلك في ظل الحاكم المستبد وضمن رؤيته الخاصة مما قد يؤدي إلى تحوُّل الأوطان إلى مساحات جغرافية بعدما تفقد صفتها السياسية كهوية وطنية وكأساس للمواطنة والحقوق المرتبطة بها.
سوف تصبح القضايا المرتبطة بالنضال الوطني أو العقائدي، في ظل النظام الدولي الجديد، قضايا مرتبطة بالمصالح والقدرة على الحفاظ على تلك المصالح، وهي بذلك سوف تكون قضايا متغيِّرة بتغيُّر المصالح وليست ثابتة بحكم ارتباطها بالثوابت الوطنية. كما تشير التطورات الأخيرة فإن قضايا النضال الوطني أو العقائدي قد تُصنّف عموماً بوصفها قضايا إرهاب، باستثناء تلك المرتبطة بمصالح القوى المهيمنة على مقدرات العالم طبقاً للنظام الدولي الجديد. وهكذا فإن غياب الثوابت والجنوح نحو الانتقائية في التصنيف سوف يجعل من النظام الدولي الجديد كتله هلامية تفتقر إلى ثوابت دولية وأخلاقية تؤدي إلى الاستقرار العالمي، وتصبح العلاقات الدولية محكومة بمصالح متغيرة في عالم يزداد سكانه باطّراد، وتقل موارده الطبيعية باطّراد أيضاً. وتزداد عوامل الاضطراب المرتبطة بالمصالح المتغيرة تأثيراً وأهمية على حساب عوامل الاستقرار المرتبطة بالثوابت الدولية المتناقصة.
قد يعتقد البعض أن هذا التغيير هو نحو الأفضل، ولكن الحذر يجب أن يرافق مثل تلك الرؤية لأن عالماً مرتبطاً بالمفاهيم المصلحية البحتة، المستندة إلى امتلاك ناصية القوة سوف يكون بالتأكيد عالماً متوحشاً تحظى فيه الرؤية الإنسانية على أدنى مراتب الاهتمام. والقانون الإنساني المستند إلى التجارب والآلام التي رافقت قروناً من الحروب والتطاحن والدمار والتضحيات والتنمية والتقدم والإنجازات، الذي يهدف إلى التعامل مع الشعوب بمنظور إنساني حضاري مغلف بالرحمة والمشاركة، سوف يتقهقر فاسحاً المجال أمام قانون شرس، لا يحترم سوى القوة والمصالح المادية كما تجسده الآن إدارة ترامب الأمريكية بصورة أولية وابتدائية، وإن كان يتميَّز في أصوله منذ البداية بالأنانية المطلقة وافتقاره إلى الرحمة بصورة واضحة.
سوف تختفي المفاهيم السائدة لمصلحة مفاهيم جديدة، لن تكون محصورة بالسياسة بل تشمل الاقتصاد والبيئة والموارد وكيفية إدارتها أيضاً، إضافة إلى ملكية المصادر الطبيعية الأساسية والتعامل مع قضايا المناخ، وما قد يتمخض عنها على مستوى كوني. والحروب الإلكترونية والطائرات بلا طيار سوف تجعل من مفهوم الحروب التقليدية شيئاً من الماضي، وتعزز قدرة الدول التي تمتلك ناصية القوة – بصورها المختلفة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية – على السيطرة على المصادر الطبيعية والشعوب والأسواق. والنمط الجديد من الحروب التجارية، مثل التي تجري الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بكل تأثيراتها في الاقتصاد الدولي وفي سوق المال والأسهم العالمية، أو كالتي جرت سابقاً بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على نظام الحماية لسلع بعينها مثل الفولاذ، يعطي مؤشراً عن طبيعة صراع المصالح وأدوات الصراع في النظام الدولي الجديد. وهكذا، فإن الدول القوية في ظل هذا النظام ستزداد قوة والدول الغنية ستزداد غنىً، والشعوب الفقيرة سوف تزداد بؤساً.
شعوب البلاد التي تكتنفها الحروب – سواء الأهلية أو الخارجية – أصبحت تسعى للهجرة إلى دول الصف الأول التي تستطيع تقديم حياة أفضل لمواطنيها. وأصبحت المواطَنة بشكلها القانوني والإداري أقوى من الوطنية بشكلها السياسي، وقريباً سوف تتحكم إمكانات الفرد وخبراته وظروف العرض والطلب في إعطاء أي شخص حقوق المواطنة في بلد ما من دون أن يرتبط ذلك بالانتماء الوطني السياسي بالضرورة.
الحقوق المكتسبة المرتبطة بالهوية الوطنية والانتماء الوطني سوف تصبح أقل أهمية من امتلاك القدرة على تلبية متطلبات سوق العرض والطلب العالمية، التي تحدد فرصة الحصول على مواطنة هذه الدولة أو تلك. والدول لن تكون تعبيراً عن الانتماء الوطني بقدر ما ستكون تعبيراً عن مجموعة المصالح التي تربط مجموعة من البشر في بقعة جغرافية ما وإلى الحد الذي ستختفي فيه الدولة القطرية لمصلحة مجموعات إقليمية أكبر وأقل تمسكاً بالهوية الوطنية مثل أوروبا والاتحاد الروسي.
العرب أقل قدرة على استيعاب تلك المتغيرات المعقدة، وأقل استعداداً للقبول بها، نظراً إلى حداثة فكرة الدولة الوطنية والهوية القومية العربية وعدم نضجها في السياق التاريخي لحياة الشعوب، وبالتالي تنامي الإحساس بالضياع في حال فقدانها كهوية سياسية وطنية قبل أن تكون قد نضجت وترسخت. علماً أن قضايا الصراع التي تعصف بالمنطقة العربية مرتبطة بالمفهوم التقليدي للهوية الوطنية ممثلة بالدولة الوطنية وقضايا التحرير المرتبطة بها مثل قضية فلسطين وتحريرها وحق الشعب الفلسطيني في دولته الوطنية المستقلة. يضاف إلى هذا أن الإطار الأيديولوجي للقومية العربية يسعى إلى دولة الوحدة كتجسيد نهائي لتلك الرابطة. من هنا فإن الرفض العربي المتوقع للتغيرات القادمة في النظام الدولي الجديد ربما لا يكون مبعثه الرفض الواعي والقادر، بقدر ما هو تجسيد للإحساس العربي بالضياع والخوف الناتج من متغيرات قادمة من خارجه تفرض تغييراً سابقاً لحالة النضج الوطني؛ الذي يسمح بالانتقال من مرحلة قائمة إلى مرحلة أخرى جديدة تدفع بمنظومة من القيم والمفاهيم؛ التي تتناسب وظروف عالم خارجي قادر على الاستفادة منها، في الوقت الذي يفتقد فيه الوطن العربي مثل تلك القدرة.
ولعل صفقة القرن تهدف إلى التناغم مع تلك المتغيرات من خلال تكريس سيطرة الدولة الأقوى في الإقليم (إسرائيل)، وتجاوز مفهوم الهوية الوطنية من خلال التقدم بأفكار تهدف إلى القفز فوق مفهوم حق تقرير المصير للفلسطينيين وهدف الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة، لمصلحة مفهوم دولة إسرائيل الشرق الأوسطية المهيمنة على الإقليم عموماً. علماً أن المجتمع الإسرائيلي يمثل مجتمعاً مرتبطاً بمصلحة الإسرائيليين المشتركة في استعمار الأرض الفلسطينية وما يجاورها؛ مستغلين بذلك الإطار اليهودي الصهيوني كقوة جامعة لتلك المصلحة أكثر منه كهوية وطنية ذات مدلول أيديولوجي حقيقي، حيث إن الهوية اليهودية للدولة سوف تضعف تدريجياً لمصلحة صفتها الشرق الأوسطية بعدما تحصل إسرائيل على كل ما تريد من الفلسطينيين، إن استطاعت ذلك! فمفهوم يهودية الدولة يعني في أصوله الحقيقية «لافلسطينيتها» ورفض أي علاقة لها بالفلسطينيين أكثر من أي أمر آخر.

1