أحدث الأخبار
الأحد 28 نيسان/أبريل 2024
انتقام صدام!!
بقلم : عبدالحليم قنديل ... 02.07.2014

قد لا تعدم من يقول لك أن صدام حسين لم يعدم، ويروج لشرائط يظهر فيها صوت يشبه صوت صدام، فالعراق بلد مسكون بالأساطير، وقد ولدت فيه أسطورة الإمام الغائب أو المختفي إلى آخر الزمان، وتولدت في العراق ـ أيضا ـ أسطورة صدام حسين، الذي يبدو في صورة الإمام الحسين لدى أنصاره الذين يشعلون التمرد أو الثورة العراقية المسلحة.
وكاتب السطور كان ـ ولا يزال ـ يعتقد أن صدام ديكتاتور من نوع عراقي جدا، لا أنكر عليه قوميته العربية، ولا قيادته المميزة لحزب البعث العربي الاشتراكي، وإن كانت الملامح العراقية لصدام أكثر ظهورا، وما ينسب إليه من دموية واحد من العناوين الكبرى لأصالة عراقيته، فثقافة الدم هي المجرى الأساسي لتاريخ العراق ككيان سياسي، وقد ظل العراق عنوانا جغرافيا ـ لا سياسيا ـ لحقب وعصور وأزمنة طويلة، وظهرت على أرضه حضارات قديمة عتيدة، وعلى أماكن متفرقة من جغرافيته، وكانت بغداد ـ عاصمة الرشيد ـ علما على عصور زاهية من عمر الحضارة العربية الإسلامية، لكن العراق ككيان سياسي لم يظهر إلا قبل أقل من مئة سنة مضت، وبعد خديعة البريطانيين لثورة الشريف حسين، ونكثهم بوعد منحه دولة عربية موحدة بعد إجلاء الأتراك، ثم تقسيم المشرق العربي ـ كيفما اتفق ـ باتفاقية «سايكس ـ بيكو»، واعطاء العراق لواحد من أبناء الشريف حسين، وككيان سياسي مقتطع بعضه من أملاك الخلافة العثمانية المهزومة، ومضاف إلى بعض آخر في الجنوب، لم يكن تابعا للعثمانيين في أي وقت، وكانت رابطة العشائر العربية وقتها أقوى من خطوط التقسيم السني والشيعي، وهكذا ولد العراق الذي عرفناه لعقود، وكبلد غني بالميراث الحضاري لجغرافيته، وبموارد الماء والبترول الذي ظهر في ما بعد، لكن تكوينه السياسي ظل في غاية القلق، فما من عمود فقري غالب متجانس للتكوين السياسي، بل تكوين أشبه ببواقي فساتين طائفية وإثنية، ففيه تركمان وآشوريون وصابئة وعبدة نار، وفيه جماعات ثلاث أكبر، بدت كأنها تلتقى على حرف مسنون، فالفستان الشيعى ممتد من إيران إلى وسط وجنوب العراق، والفستان الكردي ممتد من شرق تركيا إلى شمال العراق، والفستان السني ممتد من أقطار عربية غرب العراق إلى مناطق في الشمال والوسط، وبدا لقاء الجماعات الثلاث كأنه لقاء خناجر، لقاء بين جماعات بينها ما بينها من ثارات وأحقاد وإحن ومحن التاريخ، وبدون سند مؤكد يعطي لجماعة ما حق ادعاء الأغلبية أو دور العمود الفقري للدولة، فالأغلبية قد تكون للشيعة بحساب معين، وقد تكون الأغلبية للسنة بإضافة الأكراد للسنة العرب، ولم يكن ممكنا ضمان اتصال وحدة العراق كدولة بغير قوة صهر هائلة، وبدرجة حرارة قمع قد تصل إلى ألف فهرنهايت، وهو ما ولد ما قد يصح أن نسميه «ثقافة الدم»، وتكرار دورات الانتقام، فلم يمت حاكم واحد في تاريخ العراق ميتة ربنا، وكان الاختيار دائما بين أن تكون في القصــــر أو أن تذهب إلى القبر، وهو ما بدا ظاهرا في سيرة صدام حسين آخر حاكم يعتد به للعراق الموحد، فقد ظل صدام مطاردا محكوما عليه بالإعدام، وإلى أن سبق وأكل النبق، وتمكن من الوصول للقصر مع انقلاب أو ثورة البعث في يوليو/تموز 1968، وتمكن من إعدام خصومه الذين حكموه بالإعدام، ثم دار الزمان دورته الكاملة، ووقع العراق فريسة للاحتلال الأمريكي ومن بعده الإيراني، وصدر الحكم بإعدام صدام، وجرى تنفيذه بصورة طائفية مقيتة في ليلة عيد النحر عند المسلمين، وعلى حبل المشنقة، بدا صدام عراقيا متألقا هازئا بالشامتين، بدا الرجل كأنه قد من حجر، فلا رعشة خوف، ولا ثانية وجل، ذاهبا إلى الموت وكأنه مدعو إلى شهود حفل عرس.
لم يفهم الأغبياء أن إعدام صدام هو الذي سيخلده، ففي نفس كل عراقي صدام حسين صغير، ونهاية صدام الأسطورية مسحت من الوجدان كل ما تقدم من ذنبه، فلا جدال في طغيان صدام، ولا جدال في دمويته، ولا جدال أيضا في تفسير كل ما فعل بطبعه العراقي، وقد اتيحت لكاتب السطور فرصة زيارة العراق لمرة واحدة لم تتكرر، كانت الزيارة مع وفد من ألمع الكتاب المصريين زمن حصار العراق بعد حرب الكويت، كان ذلك عام 1994، وكان صدام يقيم أغلب الوقت في أماكن سرية، وذهبنا إلى القصر الجمهوري في بغداد، حيث كان يقيم الراحل طه ياسين رمضان نائب الرئيس، رمضان كان بعثيا من أصل كردي، وخطب فينا رمضان، وتوالى على المنصة شعراء العراق وطن القصائد، ثم أزيح الستار فجأة، وظهر صدام حسين نفسه، وبدأ في خطاب طويل بنبرة صوت منخفضة، لم أكن أبدا من المعجبين بإيقاع كلمات صدام، ولا منجذبا إلى طريقة إلقائه التي بدت لي مضجرة عليلة، لكني لاحظت نشوة الجالسين المصطفين على مقاعد في جانبي القاعة، وبعد خطابه الذي وعد فيه بصمود العراق حتى لو استمر الحصار لعشرين سنة، نزل صدام ماشيا في الممر الفاصل بين مقاعد اليمين ومقاعد اليسار، وتهافت الحضور على فرصة مصافحة صدام، أو حتى على مجرد لمس ردائه العسكري، بينما تشاغلت أنا عن الهرج والمرج، وشغلت نفسي بتأمل لغة جسد الديكتاتور الذي قرأت عنه الأهوال، وبدا لي صدام عن قرب كأنه تمثال صخري، ملامح وجهه الستالينية جامدة ثابتة لا تتغير أبدا، كان ثباته العصبي المذهل مما يغريني بتخيل غريب، فقد تخيلت أنه ولد بلا جهاز انفعالات عصبية من أصله، وأن القابلة التي ولدته وقعت في خطأ ظاهر، فقد قطعت حبله السري الذي يربط الوليد بمشيمة الأم كما هي العادة، لكنها نسيت وقطعت معه «حبل النخاع الشوكي»، وقتها صدقت ـ مع استطرادات التخيل ـ كل ما سمعته أو قرأته عن دموية وقسوة وعنف صدام، وظلت الصورة عالقة في مخيلتي، وإلى أن شهدت كغيرى وقائع إعدام الرجل، التي بدا فيها كائنا أسطوريا لا يهاب الموت، وبلا لمحة حزن حتى على أولاده وأحفاده الذين قاتلوا الأمريكيين حتى نفاد آخر رصاصة، ثم استقبلوا مصائرهم كشهداء من نسل صدام حسين.
وعد الرجل ـ سنة 1994 ـ بالصمود لعشرين سنة، وأعدموه ـ زمن حكومة المالكي الأولى ـ قبل نهاية عشر سنوات مما وعد، لكن اسمه عاد عفيا بعد العشر سنوات الأخرى، فما من أحد يمكن نسبة ثورة العراق الراهنة إلى اسمه سوى صدام حسين، وليس «داعش»، ولا ألف «داعش» غيرها، فقد وقع الإعلام العربي فريسة لأكاذيب الإعلام الأمريكي والأوروبي، وصوروا تنظيم «داعش» الهمجي الوحشي وكأنه العنصر القائد للثورة المسلحة على حكم الدمى الأمريكية والإيرانية في بغداد، بينما لا دليل واحدا على أولوية داعش والداعشيين، فقد يقوم هؤلاء بعمليات قتل انتحاري، أو بعمليات جبانة مفخخة، لكنهم ـ أي الداعشيين ـ لا يستطيعون تحرير مدن وقرى وأقضية ومحافظات، ولا إدارتها، وقد يقول لك قائل ان «داعش»، واسم التنظيم بالكامل «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، فعل ذلك في سوريا قبل العراق، وانهم سيطروا على منطقة «الرقة» شرق سوريا، وعلى «دير الزور»، والحقيقة أنهم لا سيطروا ولا أداروا، فقد ترك الجيش النظامي السورى هذه المنطقة مبكرا، ولم تقاتل «داعــــش» سوى جماعات إرهابية مثلها من نوع «جبهة النصرة»، وكل ما جرى هو دحر إرهابيين لإرهـــابيين آخرين في معارك كر وفر لا تنتــــهي، وهذه قصـــة مخــــتلفة كليا عما جرى في غرب العراق وشماله، نزولا إلى أسوار بغداد، وفي صورة معارك فن عسكري مخططة، وليست غارات إرهــاب، وبقيادة ضباط محترفيــــن من جيش صـــدام حسين الذي حله الأمريكيون، وفي عملية تتويج لكفاح متعدد المراحل، فقد ترك صدام حسين من خلفه حركة مقاومة أذلت الأمريكيين، وأرغمتهم على الانسحاب، وترك العراق لحكم الدمى، وبعد فرار الأمريكيين، بدأت المرحلة الثانية من المقاومة بمخيمات اعتصام مليوني دامت عاما كاملا، ومع لجوء جماعة نوري المالكي إلى قمع الاعتصامات، بدأت المرحلة الثالثة الجارية، وفي صورة حرب تحرير مستندة إلى قاعدة شعبية واسعة، تغيب عنها فصائل المرتدين من شركاء المالكي والأمريكيين كحزب الإخوان المسلمين في العراق، وتضم في صفوفها ثوار العشائر والتنظيم العسكري لحزب البعث وجماعته «النقشبندية» والجيش الإسلامى وكتائب ثورة العشرين، يجمعها هدف استعادة العراق مستقلا موحدا، وبإلهام ساطع من اسم صدام الذي عاد لينتقم.

1