أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
المساكنة في مصر أكبر من حالات فردية وأقل من ظاهرة!!
بقلم : أحمد حافظ ... 18.06.2023

أصبحت قضية المساكنة محل نقاش وجدل محتدم في مصر، دينيا وإعلاميا ومجتمعيا، بين قطبين أساسيين أحدهما يتمسك بفرض تقاليد المجتمع على الأجيال الجديدة مهما كانت ثقافتها المتحررة، والآخر يرغب في التمرد على أعراف وموروثات متعددة، لاسيما المرتبطة بالعلاقة بين الشاب والفتاة، إذ ليس شرطا أن تكون تحت مظلة الدين.
القاهرة - لجأ الأزهر إلى إلصاق تهمة الزنا بالشباب والفتيات الذين يميلون إلى تطبيق المساكنة من دون زواج شرعي كنوع من التشدد والترهيب، مستغلا الهوس بالفتاوى الدينية، وهي نبرة ترفضها شريحة كبيرة من الشباب، لأن القرار سوف تكون له عواقب وخيمة تدفع ثمنها فتيات باعتبارهن حلقة ضعيفة في مجتمع يوصف بأنه “متديّن” يسيّر شؤون حياته وفقا للحدود الفاصلة بين الحلال والحرام.
وقال مركز الأزهر العالمي للفتوى إن النقاش حول قبول المساكنة على مرأى ومسمع من الناس “طرح عبثي خطير، يستخف بقيم المجتمع وثقافته وهويته، ولا يمت للحرية بصلة، إلا حرية الانسلاخ من قيم الفطرة وتعاليم الأديان، وهذا لا يخرج عن كونه ممارسات منحرفة ومحرمة ترتقي إلى مرتبة الزنا، وتقود إلى هدم كيان الأسرة والمجتمع”.
وقوبل رأي الأزهر بانقسام، فهناك فريق يدعم وجهة النظر الدينية كحل جذري للقضية قبل أن تتحول إلى ظاهرة، مقابل تيار معارض يرفض وصم المساكنة بوصف مسيء ومنبوذ أسريا، مثل الزنا، في مجتمع شرقي محافظ، وأن الأزهر كمرجعية دينية أصدر حكما نهائيا على هؤلاء الشبان بارتكاب جريمة تقتضي الحبس.
وكان الفريق الأكثر معارضة للوصاية الدينية من أصحاب الأفكار المتحررة من القيود المجتمعية، باعتبار أن المساكنة ليست خيارا، لكنها حل وعلاج لظروف اجتماعية طارئة مثل التفكك الأسري والطلاق، ومحاولة لفهم الطرفين طباع بعضهما قبل الدخول في علاقة رسمية.
نقاش معلن
استسهال الحل بفتاوى دينية يزيد الأزمة تعقيدا، ولا يصل بالقضية إلى نقطة يمكن أن تلتقي عندها الآراء المقنعة
يظهر الجدل الكثير من الشباب المصريين كأنهم اختاروا لأنفسهم المساكنة، وإلا لما نوقشت الفكرة علانية وشهدت نقاشات محتدمة حولها عبر الفضاء الإلكتروني، ودخل الأزهر على خط الأزمة ليحسمها شرعيا، لكن في المجمل تظل المساكنة في مصر أكبر من مجرد حالات فردية وأقل من وصفها بالظاهرة، بل أقرب إلى نمط شبابي.
ووسط التجاذبات المتبادلة بين مؤيدي كل فريق طرحت تساؤلات مكررة حول مدى تقبل الحكومة نفسها لهذا الواقع، وما إذا كانت تصمت أم تتحرك لاستصدار تشريع يجرم إقامة الشاب والفتاة معا دون زواج.
وعلى الرغم من أن الإجابة ليست محسومة، لكن هناك شواهد يمكن من خلالها استشراف موقف السلطات من المساكنة، وهل تجرمها أم تقر بالأمر الواقع.
والشاهد الذي يعكس اعتراف الحكومة بشكل ضمني بوجود المساكنة، وعدم الممانعة من تطبيقها بصورة غير مباشرة كحق للأفراد ولا يجب محاكمتهم مجتمعيا ولا قانونيا عليه، أنه منذ نحو خمسة أعوام عرضت فضائية “سي.بي.سي” المصرية مسلسل “سابع جار”، وهي قناة مملوكة لجهات حكومية، وكان المسلسل يتناول قضية المساكنة بشكل طبيعي دون أن يتطرق إلى عيوبها، بل ينقلها كواقع موجود، ثم بدأت تتسلل التلميحات إليها في أعمال درامية وسينمائية متباينة.
ورغم الجدل الذي أثير حول مسلسل “سابع جار” بشكل خاص، لكن أي جهة رسمية لم تعلق لتطالب بوقف عرضه، بينما قام محامون معروف عنهم رفع قضايا لفرض الوصاية الأخلاقية بانتقاد العمل وتوعدوا بمقاضاة المحطة، بينما كان العرض مستمرا وحقق مشاهدة عالية، حيث روّج للمساكنة بطريقة لم يختزلها في العلاقة الجنسية.
يدافع الكثير من الشباب والفتيات الذين اختاروا لأنفسهم وحياتهم شكلا مختلفا للعلاقة العاطفية وتمرّدوا على منظومة الزواج التي تقود غالبا إلى خلافات ممتدة قد تنتهي بالطلاق وتشريد الأبناء وضياع حقوق المرأة بسبب التسرع في الاختيار أو الانصياع لرغبات الأسرة، في حين تعتمد المساكنة على التريث في الاختيار والاختبار.
ويختزل الرافضون المساكنة بمصر في العلاقة الجنسية، مع أنها قد تحدث دون ملامسة الجسد أو إقامة علاقة حميمة، فالمهم أن يكون هناك تواصل روحي ونفسي وسلوكي لخلق ثقة تمهد لزواج يحكمه الدين أو يفترقان لعدم التوافق.
وتحدثت “العرب” مع فتاة ريفية خاضت تجربة المساكنة واختارت لنفسها اسم “هبة” لتحكي قصتها بواقعية، مؤكدة أن علاقتها مع شريكها لم تصل إلى الحميمية، وكانت أقرب إلى إقامة شبه دائمة في السكن مدفوعة بعاطفة الحب الذي يمهد للزواج الرسمي، وأرادت أن تختبر العلاقة على مستوى النضح والتأكد من عدم الارتباط بلا دراسة.
ورغم أنها من بيئة تحكمها عادات وتقاليد صارمة، لكنها قررت أن تتحرر بحكم أنها تدرس في جامعة القاهرة، وتفرض عليها الرحلة التعليمية أن تقيم في المدينة الجامعية (سكن للفتيات)، وتلتقي الشباب وتحتك بهم في أماكن مختلفة، وتدخل معهم في علاقات صداقة، حتى التقت شابا يؤمن بالمساكنة قبل الزواج، فتناغمت معه فكريا وعاطفيا، وعاشا معا لشهور طويلة قبل أن يتزوجا رسميا.
وأضافت “ما يحدث من انهيارات سريعة للعلاقات الزوجية الشرعية غيّر عادات وأفكار الكثير من الشباب، وجعلهم يفكرون في تطبيق ثقافات غربية، مثل المساكنة، سواء قبلها المجتمع أم لا، وكانت متوافقة مع الدين أم لا، فالزواج الشرعي كله مرسوم على مقاس الدين، والتمسك بالعقيدة لنحميه من الانهيار، وليس شرطا أن تكون المساكنة علاقة زنا، فربما تؤسس لاستقرار”.
وتؤمن هبة بأن المساكنة المتهورة تضر بالفتاة، كأن تستسلم للشاب دون وعي، ويظل في المقابل الزواج المتسرع قرارا متهورا وأخطر من تطبيق المساكنة بعقلانية ولو بعيدا عن أعين الناس، فالمهم أن كل طرف يكشف نفسه للآخر، لذلك يعتبرها بعض الشباب حلا لمشاكل ما بعد الزواج، ولا يجب أن تصدر الأحكام على هؤلاء بمعاداة الدين، مع اختلاف ظروف كل حالة.
ووفق تجارب بعض المتساكنين، هناك ثلاثة أنواع من المساكنة، الأول يسمى بالمساكنة الجزئية أو المحدودة، وفيها لا تكون هناك علاقة جنسية بين الشاب والفتاة، بحيث يتفقان على الارتباط العاطفي ويسكنان تحت سقف واحد، وذلك باتفاق بين الطرفين.
وهناك مساكنة كاملة يعيش فيها الطرفان حياتهما كأي زوجين ويمارسان العلاقة الحميمة، والنوع الثالث أن يتشارك الشباب والفتيات في السكن فقط دون وجود علاقة عاطفية أو جنسية، وهذا النوع يخضع عادة لدوافع اقتصادية.
يرى معارضون لتعميم تهمة الزنا على من يطبقون المساكنة، مع اختلاف طبيعة كل حالة، أن الأمر يحمل تحريضا مباشرا ضدهم، في ظل تصاعد التشدد في المجتمع، وقد تتخذ بعض العائلات من الفتوى ذريعة للانتقام من الفتاة أو شريكها حتى لو تقدم لخطبتها والزواج منها، لأن إلصاق هذا الوصف المسيء يطال أبناء المتساكنين، ويجعلهم عرضه للتنمر والاضطهاد في المستقبل.
ويقول حقوقيون إنه لا يمكن مواجهة المساكنة بالتحريم والتجريم وإهمال المعالجات الفكرية والتوعية الثقافية ودراسة الأسباب التي قادت إليها، لأن استسهال الحل بفتاوى دينية يزيد الأزمة تعقيدا، ولا يصل بالقضية إلى نقطة يمكن أن تلتقي عندها الآراء المقنعة للشباب والفتيات، باعتبارهما أكثر الفئات المجتمعية اهتماما بالمساكنة.
ويشير هؤلاء الحقوقيون إلى أن معالجة واقع فرضته ظروف معقدة وثقافات متداخلة عبر التشدد لن تكون له مردودات إيجابية مع تصاعد وتيرة التحرر من العادات والتقاليد، وربما يتسبب في انفراط عقد كثير من الأسر في احتواء أبنائها أو شعور الفتاة بالضغط للقبول بشاب معين، ما يجعلها تبحث عن بديل خارج المنزل.
وأكد علاء الغندور الاستشاري الأسري والباحث المتخصص في العلاقات الاجتماعية بالقاهرة أن الرفض المجتمعي للمساكنة أمر متوقع ومشروع، لكن اقتصار معالجة الأزمة من منظور ديني فقط توجه خاطئ لن يجد آذانا صاغية له عند أجيال معاصرة تؤمن بالحرية في اتخاذ القرار وتحديد المصير والتمرد على قيود يجد المتساكنون أنفسهم أبرياء والمجتمع متهم، بالتالي يجب استثمار الجدل لمناقشة القضية بتعقل.
وأوضح لـ”العرب” أن عدم سماع مبررات الأجيال التي تؤمن بالانخراط لفهم الآخر سوف يقود إلى مشكلات مثل تلك التي كرسها تجاهل المجتمع لأسباب الزواج السري الذي يعد دينيا خطيئة أو زنا أحيانا، مع أن أصحابه يقولون إنهم أبرياء بسبب فرض شروط تعجيزية وتكاليف باهظة أو إجبار الفتاة على شاب بعينه، أي أن سلوكيات المجتمع والأسرة تسهم في دفع البعض للمساكنة.
وإذا أراد المجتمع وضع حلول جذرية عليه أن يختار خطابا يتناسب مع الشباب المؤمنين بمشروعية هذه العلاقة لأنه لا يمكن التحدث بلغة الحلال والحرام مع جيل شغوف بمحاكاة التحرر والتخلص من تقاليد وطقوس المجتمع والأسرة، فالمتمرد بطبعه لا ينحني أمام الترهيب، ولا تعنيه النظرة السلبية، فالمهم أنه اختار ما يناسب تطلعاته.
ومشكلة بعض المجتمعات الشرقية مع المؤيدين للمساكنة أن الكثير من الأطراف التي تتصدر مشهد العمل للحد من الظاهرة تلقي باللوم والمسؤولية على الشباب والفتيات دون دراسة مبررات ودوافع العلاقة لمجرد أنهم خالفوا العرف، ويتم استخدام الدين كأداة لتقييد حرية هؤلاء بحجة أنهم يتسببون في نشر الرذيلة داخل المجتمع.
ويتمسك متخصصون في علم الاجتماع بأن الحد من المساكنة بنمطها الجنسي يبدأ باعتراف المجتمع بأنه شريك في الخلل الذي أصاب تفكير وأخلاق الشباب، ما دفعهم للتمرد على العلاقات الشرعية، بعد أن وضع حواجز وعراقيل أمام عواطفهم، وفرض عليهم نمط حياة مرفوض من جانبهم، ويتعامل مع الفتاة على أنها كائن بحاجة إلى وصاية.
والمسار الأكثر واقعية وفق الغندور هو تبني خطاب توعوي بسيط وهادئ يحذر الشباب والفتيات من خطورة المساكنة والعلاقات المتهورة قبل الزواج عن طريق بث وإذاعة قصص واقعية لضحايا هذا النوع من العلاقات، ويتحدث البعض عن تفاصيل التجربة بندم لتعزيز مصداقية الكلام وسهولة الإقناع، حيث تكون هذه الروايات مرجعية لكل طرف يريد خوض التجربة، بعيدا عن أية رؤى دينية.
وسواء تحولت المساكنة إلى ظاهرة أو ظلت أكبر من مجرد حالات فردية، فلا يمكن للمجتمع المصري أن يقبل بها كأمر واقع، وليس أدل على ذلك من تعامل بيئات مختلفة مع علاقات الزمالة والصداقة بين الشباب والفتيات برفض يتخطى حدود التشدد، ويمكن لأي شاب أن يعتدي على آخر ويحطم بيته لمجرد أن الأخير استضاف فتاة غريبة عنه في منزله، وكأنه احتك بفتاة تنتمي إلى أحد أفراد أسرته.

1