**غيرت الحكومة المصرية إستراتيجيتها المرتبطة بالتصدي لظاهرة ختان الإناث، حيث نزلت المؤسسات الرسمية إلى أرض الميدان للاحتكاك المباشر بالمواطنين بغاية إقناعهم بعدم جدوى الختان في الحفاظ على شرف الفتاة، وهو اعتقاد سائد لدى العديد من الأسر خصوصا في المناطق الريفية. وتراجعت نسبة ختان الإناث إلى أقل من 14 في المئة مقارنة بنحو 37 في المئة قبل خمس سنوات.
القاهرة - جنت مصر ثمار تركيز الخطاب التوعوي لمؤسساتها التعليمية الصحية على شباب الأسر والأجيال الجديدة بشأن التخلي عن معتقد ختان الإناث، ما ترتب عليه تراجع نسبة الختان إلى أقل من 14 في المئة، مقارنة بنحو 37 في المئة قبل خمس سنوات.
وأعلنت نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعي في مصر، أن نسبة قبول الأمهات بختان بناتهن تراجعت إلى 13 في المئة، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالأرقام المخيفة التي كانت موجودة من قبل بسبب تقديس العائلات لهذه العادة السيئة.
وشهدت السنوات الأخيرة تغيرا في إستراتيجية المؤسسات الحكومية المصرية المرتبطة بالتصدي لظاهرة ختان الإناث التي طالما ظلت وصمة عار في جبين الدولة، حيث تعاملت مختلف الهيئات في مسارات متوازية لتغيير ثقافة الأسر.
وأسهم تمرد بعض الأسر على العقوبات التي تقرها التشريعات، وعدم اكتراثها بالحملات الإعلامية، في إجبار المؤسسات الرسمية على النزول إلى أرض الميدان للاحتكاك المباشر بالمواطنين من أجل إقناعهم بعدم جدوى الختان في الحفاظ على الشرف، حسب اعتقادهم.
وأدركت الحكومة المصرية عدم فائدة العقوبات التي يمكن فرضها لإقناع الأسر بالعدول عن ختان الإناث وأضراره على الفتيات، ما جعلها تتبع سياسة طرق الأبواب والتحدث إلى الناس بشكل مباشر عبر حملات توعوية ميدانية ومؤثرة.
وأظهر التحرك الواقعي لمواجهة ظاهرة الختان أن أية تشريعات مهما كانت صرامتها لا يمكن أن تغير السلوكيات الأسرية الخاطئة، طالما لا يوجد خطاب توعوي يلامس أفكار وقناعات ومعتقدات الشريحة المستهدفة لتغيير تصوراتها.
وبدأت خطة المواجهة بتحديد المناطق التي تنتشر فيها عادة الختان والنزول إليها وعقد لقاءات مع سكانها، خاصة الشباب والفتيات المقرر أن يكونوا أرباب أسر في المستقبل، مع تخصيص خطاب مختلف للأجداد لتغيير مفهوم الختان.
وشارك في التحرك الميداني ممثلون عن المجلس القومي للمرأة، ورائدات ريفيات، وأعضاء من منظمات نسائية ونخبة من المتخصصين النفسيين والاجتماعيين، ومجموعة من الواعظات اللاتي يتمتعن بفكر ديني معتدل وثقة عند الناس.
وأوضحت هالة محمد، وهي رائدة ريفية مختصة بإحدى قرى محافظة البحيرة شمال القاهرة، لـ”العرب” أن “تراجع معدل ختان الإناث نتيجة طبيعية للاحتكاك المباشر مع الأسر، والاستماع إلى مبرراتها وتفنيدها بحجج وردود مقنعة”.
وقالت “نجلس مع سيدات، وشباب وفتيات، نستمع للأسباب التي على أساسها يتكون معتقد الختان ونرد على ذلك بشكل علمي وصحي وديني أيضا، نعقد جلسات في مجموعات مع العشرات من الأهالي ونتحدث إليهم بخطاب بسيط ومفهوم”.
وكانت كبرى الأزمات أمام اللجان المعنية بالطعن في أفكار الأسر حول الختان أن الغالبية تربط تلك العادة السيئة بشرف الفتاة، وربما شرف الأسرة أو العائلة كلها.
وأضافت هالة “واجهتنا صعوبات بالغة في نفي علاقة الشرف بالختان، ونجحنا بنسبة كبيرة، فبعد جهود مضنية وجدنا تجاوبا لافتا شجعنا على الاستمرار”.
وعمدت اللجان إلى تركيز الخطاب التوعوي المقدم للأسر على المخاطر الصحية التي تعود على الفتيات جراء الختان، وهنا كان الدور الأكبر للأطباء المختصين، بتعديد المساوئ التي تعود على الفتاة وإمكانية وفاتها أثناء الولادة، أو إصابتها بالعقم.
ما ميز التحرك أنه تمّت الاستعانة فيه بشخصيات موثوق بها في المنطقة المستهدفة، مثل كبار العائلات والشيوخ المعتدلين فكريا ودينيا وأصحاب العقليات المتزنة المشهود لهم بالمصداقية، ولذلك قوبل الخطاب التوعوي من أفراد الحملات بثقة.
وشارك معلمون ومعلمات في المهمة مع المتخصصين باعتبارهم أكثر فئة مقربة من شريحة المراهقين والشباب والفتيات (الطلاب)، كما أنهم يمثلون لأهالي المناطق البسيطة والمهمشة القدوة الحسنة، وبإمكانهم التأثير في قناعات أولياء الأمور.
وتظل المشكلة الحقيقية مرتبطة بأن الكثير من الأسر لا تخشى العقوبات الغليظة بقدر خوفها على مخالفة الدين الإسلامي بدعوى أنه يفرض الختان، وهي المعضلة التي لا تزال تواجه الحكومة المصرية لنسف ما تبقى من معتقدات واهية حول الختان.
وساعد على ذلك ترك الساحة أمام البعض من الشيوخ المتشددين دينيًّا للوصول إلى عقول هؤلاء، والإفتاء بأن الختان عفة وطهارة وفرض على كل رب أسرة، مع أن هناك موقفا صريحا تبنته المؤسسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، من قضية ختان الإناث، بتحريمه كليا.
معضلة المؤسسة الدينية أنها اكتفت بتحريم الختان وتبرئة ساحاتها أمام المجتمع والمنظمات الحقوقية، وتوقفت عند هذه النقطة دون أن تستكمل المهمة وتنزل بخطابها إلى مستوى الفئات البسيطة التي ظلت أسيرة لرأي ديني عشوائي.
ولم تتبن وزارة الأوقاف في مصر حملة دعوية من على المنابر بخطبة موحدة مثل التي تُلزم بها أئمة وخطباء المساجد لتفنيد الأسانيد التراثية حول ختان الإناث، حتى الأزهر اكتفى بالتحريم ولم يواجه الفكر السلفي المحرض أو يدرج في مناهجه تحريم هذا الفعل.
وأكد محمد هاني، استشاري الصحة النفسية والباحث في العلاقات الأسرية بالقاهرة، أن مصر تستطيع أن تتطهر كليا من ختان الإناث بدليل أن هناك نجاحات كبيرة تحققت على الأرض عبر الخطاب التوعوي العقلاني البسيط الذي يطعن في المعتقدات البالية.
وأشار لـ”العرب” إلى أن “هناك حاجة ماسة إلى تحرك أوسع وأشمل من جانب المؤسسة الدينية لضرب معتقدات السلفيين وتحرك آخر طبي توعوي بالتركيز على مخاطر الختان على الفتاة مستقبلا، وتوجه ثالث مرتبط بنشر ثقافة العقوبة ضد هذا الفعل، لأن الغالبية لا تعرف شيئا عن القانون الذي يقر حبس المتورطين في الختان”.
ولفت إلى أن أقصر طرق القضاء على الختان تثقيف الأهالي وتوعيتهم بأن التربية الصحيحة من جانب الأسرة هي التي تحمي الفتاة من الانحراف وليس إزالة جزء من جسدها، مع تقديم ذلك الخطاب بشكل مقنع، وتقديم أمثلة حية على ذلك لنسف المعتقد الخاطئ الذي يربط العفة والشرف بالختان.
وظل التحرك لمواجهة ختان الإناث على الأرض ثقافة غائبة عن الحكومة لسنوات طويلة، حيث اعتادت الحد من الظاهرة بالتمادي في تغليظ العقوبة حتى وصلت إلى السجن المشدد سبع سنوات للأب والطبيب الذي يتولى مهمة الختان من دون البحث في المبررات وعلاجها بشكل واقعي.
وما يبرهن على أن مواجهة السلوكيات الأسرية الخاطئة لا تتم بالقانون وحده هو أن عقوبات الختان نادرا ما تطبق بحكم السرية التي تفرضها الأسرة على العملية برمتها، ويصعب أن يبلغ الجيران عن بعضهم البعض لإيمانهم بأن ذلك من الأمور الضرورية، ولذلك صار الخطاب التوعوي أقصر الطرق لتحصين أجساد الفتيات.
وإذا كان تراجع معدلات الختان يشير إلى ارتفاع منسوب الوعي الأسري، وعدم تأثر الناس بالفتاوى الشاذة، فإن استئصال هذا الداء المجتمعي يتطلب استمرار العلاج الميداني لأطول فترة ممكنة بعيدا عن اختزال المواجهة في غلظة التشريعات التي تبين لاحقا أنها والعدم سواء
مصر تخفض معدل ختان الإناث وتجني ثمار مخاطبة شباب الأسر!!
بقلم : أحمد حافظ ... 04.03.2023
*المصدر : العرب