حاربت المرأة العربية لعقود من أجل افتكاك مكانتها الاجتماعية، واسترداد ذاتها المغتصبة باسم العادات والأعراف والتقاليد، رهان ربما لا تزال البعض من النساء العربيات غير قادرات على تحقيقه، نظرا إلى سلطة “العادة”، حيث تبقى المرأة مقيّدة بجملة من الأغلال الاجتماعية التي تلقي بثقلها على كيانها جسدا وروحا. من هنا كان الوعي الثقافي هو الضوء الذي يلقي بذاته ليعرّي المسكوت عنه ويحرر صوت من لا صوت له.
تدور أحداث رواية “إني وضعتها أنثى” للكاتبة والناقدة المغربية سعيدة تاقي، الصادرة ضمن سلسلة روايات الهلال (2015) عن دار الهلال، حول مهدية الشخصية الرئيسية والتي تنحدر من مدينة تطوان المغربية ذات التعدد الإثني والتنوع الحضاري، عبر علاقات متعددة ومتشعبة، مهدية رمز الأنثى والإنسان، المتعطشة لامتلاك ذاتها وبالتالي تحرير جسدها كليا من قهر العادات وتسلطها.
الكاتبة اختارت بنية فنيّة استندت فيها على البوليفونيّة (تعدّديّة الأصوات الساردة)، تكريساَ لطرح تعدّدية وجهات النظر من خلال الموازنة بين مقاطع السرد، وهو ما أتاح للرواية ديناميّة مدهشة تفتقر إليها الحبكة التقليديّة، التي يحتكر فيها الراوي العليم مهمة السرد؛ ففي البوليفونيّة ينحسر السرد الأحادي، لتحل محلّه السرود المتعدّدة، التي تتيح حريّة تصوير المشاهد والمواقف من منظور تعددي إضافة إلى استبطان دواخل الشخصيّات، وبذلك يتمّ التعبير بحريّة عن خصوصيّاتها، في حين يخفت صوت الراوي العليم وتتلاشى هيمنته البطريركيّة الفارضة لأحادية المنظور على فضاء الرواية قسرا؛ فهنا تسود النغمة الاحتمالية والشكوكية المجسّدة لإشكاليّات طبائع الشخصيّات، هذا ما يجعل القارئ أسيرا للتقاطعات الإنسانية المتداخلة، والتي تميّز الكائن البشري.
شغف وقمع ومنفى
هذا الغوص داخل الشخوص والذي يتحقق ضمن البوليفونيّة يأتي بدافع الاستكشاف، الأمر الذي قد لا يتحقق ضمن الحبكة التقليدية والتي تسمح بشعور تعاطفي أكثر منه اكتشافا للباطن ومحاولة فهم متاهاته الإنسانية.
البنيّة التعددية للسرد أفضت إلى بروز أبطال جدد غير الشخوص، فمن خلال مشهدية الزمكان حيث تداخلت مدلولات مختلفة (اجتماعية/ فلسفية/ سياسية/ أخلاقية…) لتشكل الزمان والمكان في الرواية، تحتفل سعيدة تاقي بمدينة تطوان المغربية ذات التعدد الحضاري، فترسم ألوانها المختلفة وتحكي قصصها المتنوعة (بيت مهدية يقابله بيت عزيز)، وبين ماضيها الموسوم بالتسامح والانفتاح وتقبّل الآخر، ورغم خصوصياتها الاجتماعية والسياسية، فإنها تنغلق حاضرا لتلبس الأسود بفعل التشدّد.
السرد أيضا كان بطلا في رواية “إني وضعتها أنثى”، فمن خلال حكاياتها المتعددة تحتفي الناقدة المغربية بماهية الكتابة، حيث تؤرخ تفاصيل المدن والإنسان عامة.
سعيدة تاقي من خلال بطلي روايتها مهدية وعزيز تخرج أصوات من لا صوت لهم، تفرد الورقة البيضاء وتدعو عزيز المعارض السياسي والعاشق إلى أن يطلق صوته ليحكي تفاصيل القمع والهروب والمنفى.
وترافق مهدية على مدى أربعين عاما تقريبا إلى أن تتحرر أخيرا من العادات الاجتماعية، وتكسر الخوف الذي أسسه المجتمع الذكوري ضمن نظرته الإقصائية لجسد الأنثى، مهدية التي اكتشفت جسدها كما اكتشفت مدينتها بالهروب رغم إدراكها الباطني بمفاتن الغواية في الاثنين، ظلت تخبّئ شغفها -الشغف هنا يأتي مرادفا لمعنى الانطلاق والتحرّر- مهدية الطفلة هي الواجهة لأسئلة الذات، الأسئلة التي لم تمت حتى بفعل القمع الاجتماعي الممارس ضدّها، كانت أمام الإشكالية التي يطرحها جسدها باعتبارها أنثى، جسدها الذي أصبح عائقا وبات كما الأبواب يبعد عائلتها عنها، ويصنفها ضمن السلم الاجتماعي باعتبارها “النقصان”، من هناك كانت علاقتها بإخوتها، وفي ما بعد بزوجها الذي ينكرها نهارا ويقفل الأبواب عليها، ليأتيها ليلا، هذا الحاجز الذي بناه المجتمع والعائلة في مراحل مختلفة من عمر مهدية تحوّل إلى جمرة “ثورة” وهي تعبر البحر لتلتقي بحبيبها عزيز، عزيز هنا ليس هو المرآة التي رأت فيها مهدية ذاتها كاملة؛ جسدا وروحا، عقلا وقلبا، لتعيد اكتشاف أصغر تفاصيلها حتى في علاقتها بثيابها، كشف يتواصل وهي تحتضن “تودّد” أو بالأحرى تحتضن الأمومة لتصبح الأم والطفلة والأنثى والعاشقة.
تعرية الأفكار
سعيدة تاقي ومن خلال عناصر السرد المختلفة مارست مهمة تعرية الأفكار الرجعية والقمعية، سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو حتى الدينية، لقد حررت أصواتهم وأطلقت أحلامهم.
هذا التحرر عززته ضمن ما يسمى بالكتابة الأيروتيكية، التي كانت حاضرة بقوة في “إني وضعتها أنثى”، لتندرج ضمن اعتبار السرد بطلا -من خلال تكريس وظائفه الأصلية- وكذلك ضمن مفهومها العميق البعيد عن المفهوم السطحي من حيث أنها الحديث عن الجسد والجنس، وسارت وفق ذلك المفهوم الذي تحدثت عنه “غلوريا شتاينيم” في مقالها “اختلاف واضح حاضر” حيث هناك خيط رفيع جدا بين الأدب الأيروتيكي والأدب الجنسي، والبعض قد لا يستطيع أن يتلمّسه.
في رواية “إني وضعتها أنثى” تحتفي سعيدة تاقي بالكتابة الأيروتيكية ضمن مفهوم المساواة والحرية، الحرية بمعناها الكامل وليس الجزئي منها، لذا كانت مهدية وكان عزيز وكان الإنسان، وكان يستلزم كسر تلك الأبواب التي تفصل بيننا.. وبيننا، مهدية التي ظلت قرابة الأربعين سنة حتى تكتشف جسدها، جسدها الذي يحتويها لم تكن قادرة على أن تحتويه، أو بالأحرى لم تُترك لها فرصة احتوائه، لم تكن حرّة في تقرير مصيره أو التصرف وفق ما يبتغيه هو، ظل جسدها لزمن الآخرون هم من يقررون له ويتصرفون كأنه ليس لمهدية، عزيز وذلك العبور بواسطة ماريا سمح لمهدية أن تمتلك ذاتها كاملة، أن تمتلك جسدها ومتعتها وعقلها وقلبها، أن تصبح قـادرة على التصرف فيه وفق ما تراه قناعـاتها وتفكيرها.
هذا الوعي يتجلى في ما بعد عند مهدية وعلاقتها بابنتها، لتصرّ أنها تريدها كما هي، لا تريدها نسخة منها، لا تريدها مثل أمها المرأة التي لم تمتلك أنوثتها ولا جسدها ولا ذاتها يوما، تريدها “تودد” فقط لا غير.
في نهاية الرواية التي حملت روايات كثيرة ستعود بعقلك إلى التصدير الذي وضعته سعيدة تاقي “قد أكون شيطانا لكنني لن أخرس”، الخرس هنا ليس بمعنى القول فقط ولكنه الفعل، الفعل الذي جسدته مهدية وهي تعبر للناحية الثانية، الفعل الذي يعني مهدية وعزيز وتطوان، والفعل الذي يعني سعيدة تاقي أو أي كاتب كان، من حيث أنه مسؤول أمام مجتمعه، مسؤولية ليست أدبية صرفة لكنها أخلاقية وتوعوية أيضا، فعل متعدد ومتنوع حسب كل موضع وحياة.
“إني وضعتها أنثى” ذاك الصوت الذي علا لأجل الذين يشبهون مهدية -وهن كثيرات- ولأجل المدن التي تشبه تطوان، المدن التي غطاها السواد والانغلاق وصارت تنام حبيسة التشدد والتعصب والصمت الكثير، ولأجل الإنسان وحقه في تقرير مصيره.
هناك الكثير من الروايات التي حكت عن النساء والمدن المنسيات خلف الأبواب، والكثير الذي حكى عن التشدد الديني الذي نعيشـه اليـوم، والعرف الاجتمـاعي الجـائر والحـريـات المغتصبة، لكن روايـة “إني وضعتهـا أنثى”، الصادرة حديثا عن دار الهلال، يكمـن تميزها في هذه التقنية التي اعتمـدتها الكاتبة والحبكة التي أتقنتها، بحيث حـررت الأنثى والمدينة والحب والأشياء، أطلقـت أصواتها لتحكي، وعددت المرايا والأصـوات والصـور، بحيث سمحـت للقـارئ برسـم مشاهـد متعـددة.
"أني وضعتها أنثى"رواية المرأة المتعطشة لامتلاك الجسد !!
بقلم : مبروكة علي ... 06.02.2016
المصدر : العرب