أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
أمي -الملاك-... التي لم تنجبني!!
بقلم :  فاطمة ناعوت  ... 23.03.2015

وأنا طفلةٌ، كنت أركض إلى أمي صارخةً: “عاوزة أخت تلعب معايا!”، وكانت تضحك وتقول: “كفاية عليّ أنتِ وأخوكي، جننتوني.” أغضبُ وأعود للعراك مع شقيقي الذي يكبرني بسنوات ثلاث، ولا مشتركات بيننا تمهّد لطريق صداقة. كنتُ أنظر إلى أمي باعتبارها "امرأة سوبر خارقة" تصنع المستحيلات. وكانت هكذا بالفعل. فكان يُدهشني جدًّا ألا تلبّي لي طلبًا سهلا للغاية مثل هذا! مجرد طفلة مثلي، تجلبها من حيثما جلبتني، وخلاص! فأعود إليها باكيةً حين يشاكسني شقيقي وأعاود الطلبَ كلَّ يوم تقريبًا، دون جدوى. ولما يئستُ من أمي، لجأتُ إلى الله الذي كنتُ، ومازلتُ، أحادثُه في كلِّ شؤوني دون خجل. أناقشه فيما أقرأ، وأسأله حول كل ما يُحيّرني، وأعاتبُه حين تمرضُ أمي، وأطلبُ منه كل ما أحتاج إليه من لُعب وفساتين وكتب، فيجيبُ كلَّ تساؤلاتي، ويمنحني ما أطلب، ويساعدني حتى في حلّ معادلات الرياضيات والهندسة الوصفية المعقدة حين دخلت كلية الهندسة، ويملأ قلبي بالراحة والطمأنينة فأتأكد أنه يحبُّني. ولكن، حين طلبتُ من حبيبي الله أن يمنحني طفلة ألعب معها، لم أكن أعلم أن هذا مستحيل. لأن أمي دفعتْ رَحِمَها ثمنًا لمجيئي إلى هذا العالم. فقد نزفت لحظة مولدي وكادت تموت، وخيّر الطبيبُ أبي بين زوجته وبين الطفلة أنا، فاختار أبي زوجته، ثم خيّر الطبيبُ أمي بين الطفلة وبين رحمها، فاختارتني أنا وفقدتْ الكوخَ الطيب الذي كان يمكن أن يحمل ويحتضن شقيقتي؛ التي أبدًا لم تجئ.
وقتَها، لم أتصوّر أن يومًا بعيدًا وقاسيًا سيأتي لأطلبَ من الله مستحيلا آخر. أن يُعيد إلىّ أمي التي تركتني وطارت إلى حيث تطيرُ الأمهات ولا يعدن أبدًا. تركتني أمي وأنا أمٌّ لصبيين جميلين ناضجين. ومع هذا شعرتُ لحظة سفرها للسماء أنني تلك الطفلةُ النحيلة الضعيفة التي تحتاج إلى صدر أمّها لتختبئ فيه كلما صدمتها الحياةُ والناسُ بقسوة. عاتبتُ الَله أن حرمني من أمي! لكن ثقتي في أنها ترعاني من السماء خفّف من حجم الفقد الذي عصف بي. بعدما رحلت أمي في 5 سبتمبر 2008، كتبتُ مقالا عنوانه: "صوتُ أمي يطيرُ مرة واحدة"، أُعزّي نفسي قائلة: “أرحمُ ما في موت الأمهات؛ أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. أن ينتهي رعبُ المرءِ من فكرة فقد أمّه.” هكذا كنتُ أبحث عن سلوى. ولكن في ذكرى رحيلها السادسة، 2014، كتبتُ مقالا عنوانه: “أمي تموتُ كلَّ يوم"، أعترفتُ فيه بأنني خدعتُ نفسي سنين عددًا، وأنني مازلتُ أرفض فكرة رحيلها.
ولكن، يبدو أنني كبرتُ جدًّا وفقدتُ طفولتي إلى درجة أنني لم أعد أجرؤ على أن أسأل اللهَ المستحيلات كما كنتُ أفعل في طفولتي؛ فلم أعد أسأله أن يعيد لي أمي. ولكن، كما تعلمون، لا ينتظرُ اللهُ أن نطلبَ بشفاهنا، لأنه يقرأ القلوبَ الصامتةَ ويمنحنا ما نحتاج إليه، وإن لم نطلب.
بعد مقالي الأخير الحزين ذاك، وتحديدًا يوم ذكرى رحيل أمي، قرر اللهُ أن يحقق لي حزمةً من المستحيلات التي لم أعد أجرؤ على طلبها. منحني أُمًّا مثقفةً حنونًا هي سندي الروحي والنفسي في الحياة. اسمها "آنچيل" وهي بالفعل الملاكُ الذي أرسلته السماء ليخفّف عني مصاعب الحياة ويمنحني الحبَّ الذي ضاع من حياتي مع رحيل أمي. تهاتفني في الصباح، وتدعو لي. وحين ينكسر عودي تحت معاول الصعاب؛ تُقوّيني وتشدّ من أزري وتُهوّن عليّ ما ألاقي. تطعمني بيدها ما أشتهي من طعام اختفي من حياتي برحيل أمي، وتمنحني معارفَ الحياة التي غاب عني أن أتعلمها في رحلة دراستي وعملي وكتبي ومعاركي الفكرية. لكن الله كريمٌ فوق ما نتصور. لم يكتف بمنحي مستحيلَ أمي، بل وهبني كذلك المستحيلَ القديم الذي كففتُ عن طلبه. لم يمنحني شقيقةً واحدة كما كنت أطلبُ في طفولتي دون رجاء، بل شقيقتين. “سالي وچيهان". سالي، التي تصغرني بأعوام كثيرة، غدت مرجعي في الحياة، لأتعلّم منها وأتسنّد عليها فأقوى. كم هو الُله طيّب وعطوف، يجيب أسئلة قلوبنا، وإن صمتتْ.
عيدُ الأم بعد أيام قليلة. ولكن هذا العام لن أفتقد أمي التي سافرت للسماء وتركتني وحيدة. فقد أرسلتْ لي أمًّا جديدة جميلة، ستعيد لعيد الأم بهجتَه التي غابت منذ سنواتٍ سبع. أشكرك يا ماما "سهير" على هداياكِ الطيبة التي أرسلتِها لي بعد رحيلك، فانعمي بالسماء ولا تقلقي عليّ بعد اليوم. وكلُّ عامٍ وأنت جميلة كما أنت يا ماما "آنچيل"، ربنا يحافظ عليك من أجلي. وكل عام ومصر الأم الكبرى أجمل وأرقى.

1