أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
هل تكفينا الكلمات!!
بقلم : فؤاده العراقيه  ... 21.02.2015

توقف قلمي عن الكتابة لأشهر معدودات, لا رغبة مني بالتوقف ولكن خجلا من الكلمات, كلمات ستغدو صغيرة أمام ما نعيشه من مهازل الأحداث, ومن جرائم صارت تٌرتكب يومياً دون أن ترف لها الأجفان ,وشعوب بأكملها تتعرض للانقراض .
يستفسر مني بعض الأحبة من الزملاء عن سبب الغياب, فأخجل من نفسي ومن محاولة إتيان الجواب ,لعلمي المسبق بانعدام أي جواب من شأنه أن يبرر غفوة الكلمات لمن يمتلك للضمير, وسيُرفض أي تبرير أمام حقائق اليوم , وما تحمله من كوارث , سيخجل التبرير رغم ما يحيط بي من حصار يقتل كل الكلمات, ومن ظرف يُربك أي تفكير , ومن أيام تمضي على التوالي كما مضت من قبلها الكثيرات, بطيئة في خطاها وسريعة في عدوها , تحمل في طياتها الحسرات وفي ثناياها الألم , ألم على كل يوم يمر منها دون عطاء ,أو عطائنا فيها لا يناسب قيمة هذه الأيام , تلك القيمة المهملة من ما يحيط بنا من أناس جُلهم استسلم ولم يعد له من اهتمام ,سوى من غرائزه فصار أشبه بالحيوان منه ما للإنسان .
أفيض ألماً وحسرة على هذا الزمان التي تمضي به الغالبية دون جديد ولا عنوان, أو إن الجديد فيها لا يناسب عجلة هذا الزمان , تمضي الأيام لينصاع لها الجميع , مجبرين على إهمال قيمتها ,في الوقت الذي به عليهم أن يضيفوا لأنفسهم منها كل يوم معنى جديد ,مهما كان ضئيل, أو يتعلم شيء وأن كان صغير ,المهم ان يتعلم وأن لا يمر يوماً دون أن يضيف له الجديد .
تمر الأيام وأنا أتحسر عليها وعلى ما يجب أن أفعله وما يجب أن أقرأه من كتب أراها مكدسة حولي ,متعطشة لأيادي تنتشلها من مكانها , ومن كتب حمّلتها من النت على أمل أن أجد ملاذي فيها , يتكاثر عددها كلما قرأت أكثر وكلما عرفت, هكذا هي المعرفة لا تنتهي , بل تطلب المزيد , وهكذا هو الإنسان كلما قرأ أكثر اقترب من الإنسان الذي في داخله ,وعرف بأنه لا يزال في بداية الطريق كلما اقترب من بعض الحقائق حوله ,وهكذا هم الجاهلون ,كلما مرت عليهم الأيام بروتينها الذي تعودوا عليه , كلما نبذتهم عجلة الزمان وأوقفتهم في نفس المكان وجعلتهم راضين مقتنعين بحالهم وما وصلوا له , بل وصاروا في حال من النشوى واليقين بأنهم فوق الجميع , مكتفين بما لُقنوا به من أفكار , فيما لو صح ان نعبّر عنها بوصفها أفكار , منذ الطفولة لُقنوا بها وردّدوها وكرّروا الترداد , وكأن الحياة خلت من الجديد , أو إنهم تيقنوا بأن تلك الأفكار هي نهاية كل الأفكار كونها مطلقة بصحتها ولا يحق لهم النقاش بها ولا السؤال , تيقنوا من صحّتها دون سؤال ودون شكوكٍ بها ,فتوقفوا عندها ولا هم يضيفون لها ..عاجزين عن الجديد , حياتهم عبارة عن تكرار لعادات الفتها أجسادهم وعقولهم, يفقد الزمن مسيرته , ويتوقف عند نقطة معينة , وهي تكرار الأفعال , وليس فقط الأفعال بل يصل التكرار حتى للكلمات , دون جديد ولا إضافة تذكر , روتين يحمل من الدقة ما لا تحمله أي محاولة للتنقيب والبحث عن الجديد والمفقود, حيث أن هذه العادات وهذا التكرار يجعل من هذه الحياة ساكنة سكون الأموات ,بلا قيمة تذكر .
ولا ننسى الرقيب , رقيبهم الجاثم فوق صدورهم ورؤوسهم , يتربص بجميع تحركاتهم وحتى بما يفكرون , في الشارع وفي غرف النوم , ولهذا هم خائفون ومرعوبون دوماً , يتخوفون من أفكارهم والجديد وكل ما يعملوه , فتسلل الخوف إلى أرواحهم , وبرغم مخاوفهم والرقيب ,هم لا يمنعون أنفسهم من الرذيلة ,ومعها الجريمة زادت نسبتها قياسا ببقية الشعوب التي تحررت من هذا الرقيب , ومن ثم يتذمرون من سوء أحوالهم دون ان يدركوا السبب ,أو أنهم أرجعوه لقدرهم وما هو مكتوب عليهم قبل أن يُخلقوا حتى, ويأتي جوابهم المسكون بالعفاريت التي سكنت عقولهم , بأنهم عاجزون ومسيرون وليسوا مخيرون ,هم مسيرون وانتهى من بعدهم الخيار .
رضعوا الخوف بطفولتهم فتوقفت لديهم الحياة, تسلل الجهل لنفوسهم وصارت تخشى كل شيء وحتى الحياة, فصاروا يأملون بما بعد الممات , وبحور العين يحلمون .
امسك بالقلم في محاول مني بكتابة ولو سطورٍ قليلات , لكنه يأبى الاستسلام , وتأبى الكلمات من الخروج ومن تسطير نفسها , فهل نسى قلمي الكلمات؟
فاستغثت به لعله ينقذني في التعبير ولكنه أبى ذلك
فسألته: أما حان الوقت بعد لأستعيد بك أنفاسي ولو قليلاً, فأنت صرت ملاذي الوحيد في خضم هذه الحياة التي دمّرها الحكام , وقتلت بما يكفي منها وفاضت الأرض بالدماء ؟
عن أي حدث وعن أي مشكلة تريدين مني أن أكتب ؟ أجابني القلم مقهوراً ,فالأحداث توالت علينا كالمطر, هناك أطفالاً يموتون جوعاً وبرداً , وهناك رجالاً يُذبحون بأيدي عصابات الجهل والظلام , وصاروا يبدعون ويتفننون, لا في العلم وإنما بالطرق التي ينفّسون بها عن ساديتهم, تلك السادية التي نمت وترعرعت رغم كل عبارات المودة والرحمة التي بها يتبجحون , صاروا يحرقون الناس وهم أحياء , ويبرر من هم أكثر وعياً ورحمةً بالقول بأن هؤلاء سيكونون من الشهداء , وفي الجنة سيخلّدون , فأي الكلمات تستطيع ان تفي بحق ما يجري في بلداننا من ذبح وحرق وإبادة جماعية ,واغتصاب ودمار شمل كل مرفأ من مرافئنا .
عن ماذا اكتب وعن ماذا, وبأي صيغة سأصوغ الكلمات لترضيني وترضيكِ , وكيف سأوفي حق الأحداث ؟ والأحداث الحزينة تتوالى وتتسابق مع الزمن, والمهازل, نعم إنها مهازل ما بعدها مهازل, تتزايد وتزداد معها المعاناة إلى حد الاختناق بها , عن أي حدث وحدث أكتب ؟ وكل ما يحيط بنا قتلُ ودمار .
لكني تعلمت من ان الوعي أكبر قوة , قلتُ له , ولا يخشى حتى الموت من عاش بحكمة ,والحقيقة أجمل هدف وأحلى من العسل حتى لو كانت لاذعة بمرارتها , ولا أنا من عليها أن تخجل , ولا أنت عليك أن تصمت , فكيف لك أن تصمت في زمن تدور به السكين , لتنحر أعناق الضعفاء والمساكين, وحرق الأجساد وهي حيّة صارت موضة هذا الزمان ؟
أما بصدد هؤلاء الذين ذبحوا وأحرقوا فأكتب عنهم , أكتب كيف لو خيرّنا هؤلاء الذين أسموهم شهداء ,والذين هم حرقوا أحياء, فهل لو خيّروهم ما بين الشهادة بالذبح أو بالحرق وهم أحياء ,وما بين خلودهم ملايين السنوات بتلك الجنة الموعودة ,فأيهما سيكون الخيار ؟
هل لو خيّروهم بإرجاع الزمن للوراء فسيختارون الحرق والذبح ؟ أم أنهم سيجدون الجنة هراء أمام كل لحظة من لحظات عذاب السكين والنار , هل لو صارت الأرض والسماء ملكاً لهم ستكفيهم لنسيان لحظة واحدة من تلك اللحظات , فما بالكم وهي لحظات , قل لهم هراء ما يفكرون ,وهراء لقب الشهادة الذي به يتبركون .
أكتب كيف تكون لحظات الوداع ؟,وكيف كان شعورهم آنذاك ؟
الكلمات تتزاحم معي , أجابني القلم , تتزاحم ويقف الحبر عن السيلان , فلم اعد الحق بتسطيرها على الورق ,أو لم أجد كلمة استطيع بها التعبير عن هول ما أسمع .
فقلت له ,أكتب وأكسر كل القيود دون تفكير , أكتب بحسك وما يمليه عليك الضمير, أكتب عن
النساء اللواتي يتصّدرن اهتمامي, وحدث ولا حرج عنهنّ .
قال لي, هل أكتب عن قضايا المرأة وهناك من القضايا الكثير مما لا تعد ولا تحصى, وعلينا أن نجد على الأقل لبعضها الحلول , لننقذ ما يتوجب علينا إنقاذه .
نعم , قلت له , فمن اكبر الأسباب لما نشهدها اليوم من تدهور هو تلك القضية, فلا زلتُ على رأيي هذا وسأبقى عليه طالما حُييت , وطالما هناك إرهاب يركز عدوانه على المرأة أكثر من غيرها , بحجة الله وما انعم عليها من فتنة ساحرة لا يستطيع كبحها الرجل ,لا زلت طالما المرأة مقتولة بشتى الوسائل ,وطالما يمارس ضدها كل أنواع القهر سواء كان فكرياً أو معنوياً أو جسدياً , والأدهى من هذا كله هو إننا اعتدنا عليه, اعتدنا على أن نرمي بجميع مصائبنا على المرأة فقط , أعتدنا أن نحمّلها المسؤولية كاملة في حال لو اعتدى عليها الرجل بتحرش أو حتى اغتصاب , فأي داء ينهش بعقولنا ونحن غافلون ؟ أعتدنا واعتدنا دون أن نتوقف لنتأمل ما تفننت به عقولنا من تبريرات نريح بها أنفسنا لتستكين , دون أن نسأل أنفسنا عن سبب التمييز الواقع عليها وسبب مضاعفة إرهابنا لها .
فلا تقلل من شأن هذه القضية يا قلمي , فالقضايا مترابطة مع بعضها البعض ولا يجب علينا فصلها, وكذلك علينا أن نكون ملّمين بها جميعاً لنرتقي , والمرأة اليوم تواجه محنة حقيقية تريد لها الرجوع كلما تقدمت خطوة ,هي قضية أساسية كون المجتمع يرتكز بالدرجة الأساس عليها ,شئنا أم أبينا يرتكز عليها, فهي من تربي الأطفال وتحرص على تعليمهم ,في الوقت الذي يكون فيه الرجل مشغولاً براحته وملذاته دونهم, بغرائزه التي أنعم عليه الله بها .
فاسترسلْ معي أيها القلم ولا تخذلني ,وأروي ظمأي للكلمات , فلا أملك الآن سواك, بكلماتك أتنفس, وهي من تزيل عني الآلام , وتمنع عني كل الألغام , ألغامٌ أحيا وسطها , نُصِّبت لكل من له آذان .
أسترسل ... أُحبك حينما تسترسل وتسطر الكلمات, وكن قوياً أمام هذه الظلال التي تحاول محو الأذهان, وقتل كل الكلام.
واقتسم معي كل المعاناة فمعاناتك ومعاناتي واحدة , ومصائرنا واحدة.
معكِ كل الحق, أجابني القلم واستسلم لي, سأكتب وأكتب إلى أن ينفذ حبري.
أعطاني كل الحق, قلمي الذي به أحيا
عدت لكم حاملة إياه, في خضم هذا العالم الذي فقد إنسانيته , عدتُ به في محاولة مني لأعيد بوصلة هذه المجتمعات التي ضاعت , ولكن سؤالي هو : هل تكفينا الكلمات ؟

1