رقم هاتفِك محفورٌ في ذاكرة هاتفي. لا ينبغي له أن يُمحى. سأهاتفُك اليومَ وغدًا وبعد الغد. وستجيبين على صوتي برغم الموت الذي يزعمون؛ لكنه أخفق ان يطالك. لن أصدّق الأخبارَ الكذوب ولا كلمات الرثاء على صفحات الجرائد. ولن أصدقَ مراسمَ الجناز وخشبَ التابوت. لن أصدق السوادَ الذي يُدثّر النساء المتشحات بالحَزَن. ولن أصدق دموعهن تبكيك وتقول إنكِ لم تعودي هناك. أنت تسكنين قلبي. وقلبي صندوقٌ من الأبنوس الصلد. لا يفرّط في كنوزه حتى وإن هوَت فوق أقفاله المطارقُ ودقّت جدرانَه المعاولُ. رديّ على هاتفي يا أستاذة فتحية بحق السماء. أهاتفك منذ ساعات!
***
كان هناك صبيُّ صغير، يهوى القراءة منذ طفولته، ويطارد أدباءَ مصر الكبار ليحظى منهم بكتاب أو مخطوطة لا يقدر أن يشتريها بقروشه الضنينة. أحبّه الأدباءُ بدورهم فأغدقوا عليه من فيوض فكرهم وآدابهم فعرف في سنواته المبكرة يوسف الشاروني وعبد الحميد جودة السحار وشقيقه سعيد جودة السحار، ونجيب محفوظ وسواهم من قامات مصر الشاهقات، ومنحوه حُنوّهم واحتواءهم حينما تأكد لهم نهمُه للمعرفة، فأيقن، عبر مواقف كثيرة، أن امتهان الكتابة والفكر لابد يقترن بنبل الخلق وسمو الروح، وإلا كان الأديبُ زائفًا. لكن حادثة بعينها سترسّخ تلك الفكرة.
وكانت هناك شابّةٌ ثائرة على القبح والجهل. حُرمت من التعليم في طفولتها بحكم التخلف المجتمعي الذي كان يقصر التعليم على الذكور. لكنها رغمًا عن ذلك ستهوى القراءة وتمتهن الأدب وتحمل مشاعل التنوير لتُضيء جنبات مصر المظلمات، وتقف في وجه المستعمر الإنجليزي تطالبه بالجلاء عن وطنها، وتنضم إلى صفوف النضال التقدمي بحثًا عن حقوق الفقراء التي نهبتها بطونُ الإقطاعيين.
كيف يمكن أن يلتقي خيطان لا يربط بينهما رابطٌ؟ خيطُ الصبيّ الفقير الذي يهوى القراءة ويستخدمه الثوارُ ليحمل رسائل مناضلي اليسار المعتقلين في سجون 59 إلى ذويهم، وخيط الشابة المناضلة التي صنعت ثقافتها بنفسها رغم حرمانها من مقاعد المدرسة، وتعرضها لشتى صنوف القهر الذكوري تارةً باسم "الشرف" (الذي لا يتجاوز قطرة دم على قطعة من الشاش الأبيض)، وتارة باسم "الشرع" (الذي يلوي عنقه الذكرُ الجهول ليقمع امرأة)، وتارة باسم "التقاليد" (التي نسجها رجالٌ مأزومون ليمتلكوا نساءهم المستضعفات).
كان الصبيُّ يحمل رسالة لأحد معتقلي اليسار. وكانت الشابة قد تزوجت وتحمل في أحشائها جنينًا في شهره التاسع؛ وتقود إحدى التظاهرات التحررية. جاء حصانٌ جامح يمتطيه سجّانٌ غليظ يحاول الفتك بالصبي الصغير تحت حوافر الحصان قبل أن يوصل الرسالة للسجين. فألقت الشابةُ بنفسها لإنقاذ الصبيّ؛ غير عابئة بالجنين يسكن أحشاءها ينتظر أن يرى النور.
سيكبر الصبيُّ الفقيرُ ويغدو "عمّ محمد كامل"؛ الرجل البسيط الذي كتبتُ عنه عدة مقالات يحمل أحدها عنوان: "أجمل قارئ في العالم"، حتى تركنا وغادر عالمنا قبل عامين بعدما كرّمه أدباءُ مصر في أتيلييه القاهرة العريق. وستنضج الشابة النبيلة لتغدو أستاذتي الجميلة "فتحية العسّال"، الروائية وكاتبة السيناريو والمناضلة الحقوقية المدهشة، التي تركتني لحزني وطارت عن عالمنا قبل أيام.
لماذا انتقيتُ هذا الخيط النحيل بالتحديد، من بين نسيج فتحية العسال الثريّ بالخيوط المتشابكة المعقدة؟ لأن ذاك الصبيّ، وتلك الصبية، هما أكثر مَن احترمتُ وأحببتُ من صادقين وحقيقيين معدودين، في هذا الوسط الثقافي الحاشد بالزيف والتشوهات والأمراض.
-;---;--أستاذتي وحبيبتي، فتحية العسال،-;---;-- -;---;--كيف تمضين قبل أن نحقق الأفكار الطيبة التي حلُمنا بها معًا؟!-;---;-- -;---;--كيف تطيرين إلى حيث العُلا قبل أن تعود العصافيرُ المهاجرة إلى أعشاشها؟!-;---;-- -;---;--كيف تُخلفين وعدَك معي، وما عهدتُك تخلفين وعدًا؟!-;---;-- -;---;--مَن عداكِ اليوم يصرخ في وجه الظلوم وينتزع الحقَّ للمظلوم؟ مَن سواك يعلّم الصبايا كيف يدهسن المستحيلَ بأحذيتهن ويسرن فوقه؟! كيف تتركين مصرَ قبل أن يكتمل إكليلُها الوضّاء؟! مَن سواك يُلبسها طوقَ الفُلِّ الذي تجدله البناتُ الآن للعروس؟ نامي يا سيدة العدل والتحضر ملء جفونك عن شواردها، وسوف نسهرُ نحن تلامذتك، نسعى للحق والخير والجمال، ولا نختصمُ.
***
فتحية العسال- وحصان عم محمد!!
بقلم : فاطمة ناعوت ... 21.06.2014
المصدر : مركز مساواة المراه