شهد اليابان في أواسط القرن التاسع عشر تغيرات هائلة وتحديث غير مسبوق، وهي ذات الفترة التي شهدت فيها مصر تجربة محمد على باشا الذي قام فيها بتحديث جهاز الدولة وإنشاء جيش قوي يدعم نشاطه التوسعي. ومن المعلوم أن اليابان أرسلت بعثة الساموري لتطلع على التحديث الذي يحدث في مصر في ذلك الوقت. ولقد نشأت كشيدا توشيكو في طوكيو في تلك الفترة التي كانت تشهد تغيرات مذهلة وانفتاحًا على الغرب. وعملت لبعض الوقت معلمة للإمبراطورة بالبلاط ولكنه لم يرق لها، فتركت مجال عملها حيث رأت في البلاط الإمبراطوري عالمًا منعزلا عن الحياة الحقيقية، فكتبت الشعر والقصة والمقالة وكرست حياتها للدعوة لتعليم الفتيات.
تعتبر كشيدا توشيكو (1863 - 1901) من نسويات الرعيل الأول باليابان. ولقد سافرت بطول اليابان وعرضها تخطب وتدعو إلى تعليم الفتيات. وفي عام 1883 قبض عليها إثر إلقائها خطابا عن "الفتيات في الصناديق" وأُدينت لإلقائها خطبة بدون إذن مسبق، وغُرمت. وسرعان ما كبتت الحكومة اليابانية الحركة النسوية ومنعت النساء من النشاط السياسي، ومع ذلك استمرت الحركة النسوية في الازدهار والمجلات النسوية في الإصدار، ومدارس الفتيات في الانتشار.
تحدثت توشيكو في خطابها ذلك عن الأسرة اليابانية من الطبقتين المتوسطة والعليا التي تعزل فتياتها إلى أن يطرق الباب العريس المنتظر. فالفتاة اليابانية في ذلك الوقت كانت تعزل تمامًا عن العالم الخارجي وتتلقى تدريبًا وافيًا عن فنون إدارة المنزل، بحيث قد يصرف الوالدان الخدم إذا بلغت الفتاة الحلم حتى تتدرب هي على ما يقوم به الخدم عادة. فتقول توشيكو : إن تسعة أعشار الآباء والأمهات الذين يبعثون ببناتهم إلى بيت الزوجية بنجاح - أي بدون أن يعدن لاحقًا بسبب الطلاق - يشعرون بأنهم قد أدوا مهامهم في الحياة بنجاح. وتتساءل الناشطة أي نجاح هذا إذا كانت أحلام الأمهات لفتياتهن بهذا التدني وهذه الضآلة.
وفصلت توشيكو ما تراه من أنواع الصناديق وحددت ثلاث منها: عزل الفتاة في صندوق عميق وإلقاء الحجب عليها بحيث لا يمكنها مغادرة الصندوق ولا رفع الحجب. أو صندوق تؤمر فيه الفتاة فتطيع بدون محبة أو تفاهم. أو صندوق أوسع سقفه السماء وأرضيته الأرض الطبيعية حيث تتنفس الفتاة هواء الحرية الطلق. وبديهيًا أنها اختارت الصندوق الأخير. فالفتاة لدى توشيكو يجب أن تتعلم فتتقن فنون وعلوم الأقدمين. وقد خصت الناشطة اليابانية بالذكر والتحديد علوم الأخلاق والاقتصاد. فالفتاة اليابانية - طبقا لرؤيتها - التي تتعلم تلك العلوم تكون أكثر جهوزية من غيرها فتنتقل إلى بيت الزوجية وهي أكثر تأهيلا وتدريبًا.
وطبيعي أن صناديق توشيكو ما هي إلا استعارات عن الحد من حريات الفتاة اليابانية في أواخر القرن التاسع عشر. ولكنها استعارة وجدت فيها توشيكو متنفسًا لتعبر فيه عن ضيق أفق الآباء والأمهات الذين يحبسون بناتهن في مثل تلك الصناديق بدعوى الحب وبدافع المحافظة عليهن. ولكنها ترى أن حبس الفتيات في الصناديق له آثار وخيمة على المدى الطويل، فالفتيات مثل الأزهار إذا حبسن فإنهن يذبلن ويذوين، وعلى الآباء والأمهات الذين لا يقتنعون بذلك أن يفكروا مليًّا في شعور فتياتهم وهن في تلك الصناديق الضيقة الخانقة. فعوضًا عن حبس الفتيات في الصناديق الضيقة تدعو توشيكو إلى تعليمهن وترى في ذلك الضمان الوحيد لإنشاء جيل من الفتيات على خلق رفيع ويتمتع بالحكمة ويتسلح بالمعرفة وبالتالي يحسن التدبير والاختيار.
أثارتني الأفكار التي طرحتها اليابانية منذ أكثر من قرن ونصف. وتدبرت في المعاني الممكنة للأسر والحرية، داخل الصناديق وخارجها. وتأملت في تشبيهها الفتيات بالأزهار. وتوقفت عند البنى المتشابهة للأسرة وآمال الأهل المتدنية للبنات وانعكاس ذلك على تدنى آمال البنات تجاه أنفسهن. وقلت ما أشبه الليلة بالبارحة.
النسوية اليابانية كشيدا توشيكو!!
بقلم : عائشة خليل ... 16.12.2012
المصدر :مركز مسا واة المراه