سأظل أذكر قصة الباحثة والصحفية السويدية التي زارتْ قطاع غزة عام 2001م لتنجز رسالة ماجستير في جامعة، أوبسالا العريقة عن النساء الفلسطينيات، رافقتُ هذه الباحثة إلى منزل إحدى أمهات الشهداء، وهي أم لشهيدين، الشهيد الثاني كانت قوات الاحتلال قد قتلته منذ يومين في ذلك الوقت، كانت الأم تقدم شرابا للمعزيات وهي تزغرد وسط النساء، وتشير إلى صورة ابنها الشاب المعلقة، وهو يرتدي زيا عسكريا، ويحمل رشاشا!
كانت مفاجأة لهذه الصحفية التي لم تعتد أن تشاهد هذا المنظر، قالت: ألهذه الحال وصلتْ أمهات فلسطين، أن يُبدلن الحزنَ فرحا؟! اعتقدتُ أنها تشجع ذلك، كانت ترغب في أن تكتب تفسيرا على لساني حينما قلتُ لها: "إن الفَقدَ غالٍ لا يظهر بعد يومين أو ثلاثة، بل يظهر بعد رحيل المعزين، حينئذٍ تتفجر عواطف الحزن، وتفيض مخزونات الألم"!
قالت: "إن حزن الأم على فقدان الابن مقدسٌ، يُظهر نُبل العاطفة، ويؤثر في المحيط أكثر بكثير من (ادعاء) الفرح، لأن معظم الصحفيين في بلادنا لا يمكنهم فهم هذه الصورة، إذ أن كثيرين يربطون صور الأم، بما يتردد على ألسنة كثير من الأوروبيين أنّ العرب والمسلمين (حجريو) العواطف، أي أنهم عنيفون يشبهون جمل الصحراء، هذا ما اعتدنا على سماعه منذ نشأتنا، وهذا أيضا يُعزز ادعاء الإسرائيليين أنهم يحاربون الفلسطينيين الذين لا يملكون حتى عواطف الألم لفقد الأبناء، لماذا تُعلق الأمُ صورةَ الابن الشاب وهو في لباس عسكري، وليس في لباس مدني احتفالي بمناسبة سعيدة لأن ذلك أكثر تأثيرا في النفوس؟!"
وفي هذا الإطار، اعتاد كثيرون من الصحفيين أن يُفضلوا (الخبطة) الصحفية على مضمون القصة الإخبارية، وبخاصة في قضايا الأطفال الفلسطينيين، فما أكثر الصور الصحفية للأطفال وهم مصابون بجروح وبتر للأقدام والأرجل وهم يرقدون في أسرة المستشفيات، حين تداهمهم عدسات الكاميرات، وتلتقط صور الجروح والبتر، وتنظم معهم لقاءات صحفية، وتسألهم وكأنهم مختصون في شؤون الحرب والسلام، يسألونهم عن آرائهم، وعن نصائحهم، وعن رسالاتهم للعالم، متناسين أن هؤلاء عندما يكبرون ستظل هذه الصور تطاردهم مدى الحياة، ولن ينسوا هذه الصور، مما يؤثر سلبا على نفسياتهم، وهذا ما يتعارض مع أبسط قوانين الصحافة!
كتبت عام 2006 عن حادثة استشهاد أسرة بكاملها على شاطئ بحر غزة بقذيفة مدفعية، بقي من الأسرة ابنة صغيرة تعرضت هذه الابنة الصغيرة إلى حملة صحفية واسعة، استضافوها في قناة فضائية مشهورة، وكان معهم طبيب نفسي، وصف إصابة الطفلة بما بعد الصدمة، وأنها تبول في ثيابها أثناء النوم، وهي عاجزة عن الحديث، سألتها المذيعة حتى عن مصدر القذيفة التي أصابت عائلتها، كتبتُ نقدا لهذا البرنامج لأنه يمس بنفسية الطفلة حين تكبر! إن نزع الطفولة من الأطفال لا يُبرره الادعاء بأن الهدف خدمة القضية الوطنية! كما أن نشر صور الأطفال ووجوههم ملطخة بالدم، وتركيز الصور على الجروح والإصابات وإلباسهم الزي العسكري لا يُحدث الأثر المطلوب ولا يعزز الرواية الفلسطينية، بقدر ما يصب في مجرى الدعاية المغرضة، وهي أن الفلسطينيين قساةٌ لا يهتمون بمستقبل أطفالهم، وصحتهم النفسية!
كلنا يعرف بأن في وطننا فيضا هائلا من خريجي الصحافة والإعلام، يضاف لهم هواة التقاط الصور، هذا الفيضان غير المنظم، أصبح مشكلة فلسطينية حقيقية، ظهرتْ خلال الأزمات والحروب! قال أحدُ المسعفين عقب عملية اغتيال الشهداء في غزة يوم 7-8-2022م: "كان الصحفيون هم مشكلتنا ونحن ننقذ الجرحى والمصابين، فقد كانوا يعرقلون عملنا، كانت الصورة عندهم أهم بكثير من الإنقاذ، لدرجة أنني دفعتُ أحدهم بقوة لأبعده عن سرير نقل المصابين!"
أخيرا، هل يجب على الفلسطينيين أن (يُجففوا) عواطفهم الفطرية؟ وأن تُعزِّزَ الصحافةُ هذا التجفيف؟ وهل هذا التجفيف يُعزز النضال ضد الاحتلال، ويسهم في حشد المناصرين والأصدقاء؟! أم أنَّ إبراز العواطف الفطرية العفوية يقوي نضالنا باعتبارنا بشرا أصحاء، نفرح في مناسبات الفرح، ونحزن في المآسي، أي أننا نشارك الآخرين في (الإنسانية)؟!
تذكروا أنَّ صور العواطف الفطرية الصادقة الجياشة، تؤثر في العالم بلا ترجمة أو لغات!
صحافة (تجفيف) العواطف!!
بقلم : توفيق أبو شومر ... 17.08.2022