انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية الفلسطينية، خلال الأيام الماضية، بخبر تعيين القيادي في حركة فتح حسين الشيخ في موقع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو المنصب الذي ظل شاغرا منذ وفاة صائب عريقات في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. وسبب الضجّة أن أول من أورد الخبر كانت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، فنقلته وسائل الإعلام الفلسطينية ثم نفته، وعادت بعد ذلك لتأكيده، تماما مثلما فعل أعضاء في اللجنة التنفيذية الذين علموا بالخبر من وسائل الإعلام، ليتبين أن التعيين صدر بموجب قرار للرئيس محمود عباس، بصفته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
ذكّرت هذه الواقعة المتابعين والمعلقين بأن اللجنة التنفيذية، المفروض أنها أعلى هيئة قيادية فلسطينية، لم تجتمع أصلا بصورة نظامية منذ النصف الأول من فبراير/ شباط الماضي، أي منذ اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني الذي أثار انعقاده في ذلك الوقت عاصفة من الانتقادات، وما زالت قراراته حبرا على ورق. وبالتدقيق يتبين أن "التنفيذية" لم تكن تجتمع أصلا إلا بصفة استشارية، من دون حضور الرئيس، وكانت ترفع له القرارات توصياتٍ ليجيزها.
ولا تقتصر أهمية الموضوع على الجانب الإداري أو القانوني، ففي كل نظام يمكن أن تجري تجاوزات، ولكن أي نظام مؤسسي يكفل إعادة تصويبها في أقرب محطّة للتقييم والمراجعة، الأمر هنا يتخطى ذلك إلى طبيعة الخيارات السياسية المستقبلية للفريق المتنفذ في القيادة الفلسطينية، إذ يربط المراقبون بين هذا التعيين وتهيئة حسين الشيخ وريثا للرئيس محمود عباس (87 سنة). وهذا يمثل، في حد ذاته، خيارا سياسيا يتبنّى التنسيق الأمني والمدني مع الاحتلال، والسعي إلى التكيُّف مع سياساته تحت حجّة "تثبيت الناس على الأرض"، والاهتمام بشؤونهم وقضاياهم المعيشية، وتجنّب الصدام مع الاحتلال أو اللجوء للخيارات الكفاحية العنيفة.
يشغل حسين الشيخ، منذ سنوات طويلة، منصب رئيس هيئة الشؤون المدنية برتبة وزير، وهي الهيئة المكلفة بالتنسيق مع إسرائيل، ولا تعتبر جزءا من مجلس الوزراء، بل يجري تعيين مسؤولها مباشرة من الرئيس. والشائع في الأوساط الفلسطينية أن الشيخ مقبول من دولة الاحتلال، ويقوم عمله الرئيسي على الاتصال الرسمي بمن يُعرف بـ"المنسق"، وهو ضابط إسرائيلي رفيع يتولى المسؤولية عن الإدارة المدنية المنبثقة عن جيش الاحتلال. كما سبق للشيخ أن أجرى لقاءات مهمة مع وزراء إسرائيليين، ومنهم وزير الجيش بني غانتس، ووزير الخارجية يائير لبيد، وهو كان، طوال السنوات الأخيرة، الأقرب إلى الرئيس أبو مازن، يرافقه، في جميع زياراته ولقاءاته المهمة، جنبا إلى جنب مع مدير المخابرات اللواء ماجد فرج.
اتساع الفجوة بين القيادة ومؤسساتها من جهة وبين الفعل الميداني الشعبي والمقاوم من جهة ثانية
جاء خبر تعيين الشيخ في هذا المنصب الرفيع وسط حالةٍ من الضعف والتفكّك وحالة العجز والشلل في بنية النظام السياسي الفلسطيني، والذي يشمل كل مؤسسات منظمة التحرير ودوائرها والسلطة الفلسطينية وأجهزتها، وحتى الفصائل المشكلة لها، وهي حالة لا تقتصر على الجوانب البنيوية والهيكلية التي شاخت وتكلست، بسبب عدم تجديد دمائها والامتناع عن إجراء الانتخابات بحجج شتّى، ولكن، وهو الأهم، بسبب عجز هذه البنى عن الاضطلاع بمسؤوولياتها وواجباتها إزاء الأحداث السريعة والعاصفة التي تشهدها فلسطين، وبخاصة منذ معركة سيف القدس في مايو/ أيار من العام الماضي، ثم على امتداد العام التالي حتى التطورات الأخيرة في القدس والحرم القدسي الشريف ومساعي إسرائيل المحمومة لتهويد المدينة، وتغيير "الوضع القائم" وتنفيذ خطة التقاسم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
كان أبرز دليل على حالة الفشل والعجز، إعلان القيادة الفلسطينية في منتصف رمضان الماضي عن عقد اجتماع قيادي طارئ لبحث الأوضاع الخطيرة في القدس، وما أثار دهشة المتابعين وحنقهم تحديد موعد الاجتماع بعد أربعة أيام من الإعلان، ما أثار تساؤلات ساخرة وحادّة عما تفعله القيادة خلال هذه الأيام، لكي تنشغل به وترجئ بحث ما يجري في القدس، لكن المفاجأة الصادمة تمثلت في تأجيل الاجتماع، بحجّة ارتباطات الرئيس، ثم إلغائه نهائيا، والاستعاضة عنه برسائل واتصالات وبيانات.
وقد عبّر الكاتب الفلسطيني مهند عبد الحميد عن هذه الحالة مبديا خيبة جيله مما آلت إليه منظمة التحرير، بالقول "أعيش مع جيلي هبوط المنظمة إلى الدرك الأسفل الذي بلغ ذروته بتعيين أمين سر اللجنة التنفيذية الجديد للمنظمة. أعيش زمن استبدال قيم الثورة بقيم نقيضة وبالمضي في التحول الرجعي إلى مداه. ما أصعب ذلك! ما أصعب الثمن المعنوي والأخلاقي المطلوب دفعه".
تكاد السلطة تفقد سيطرتها على بعض المناطق، مثل محافظة الخليل التي تنهشها الصراعات العائلية المسلحة، وجنين، وأجزاء من نابلس
تراجع شعبية السلطة والمنظمة والتآكل المتواصل في شرعيتهما لا يقلق المسؤولين، لا سيما مع تسرّب أنباء عن عدم تعجّل الإدارة الأميركية إجراء مثل هذه الانتخابات، وفق ما قاله المبعوث الأميركي هادي عمرو لمن التقاهم من ممثلي المجتمع المدني الفلسطيني. وذلك على الرغم من النتائج ذات الدلالات الواضحة التي أسفرت عنها الانتخابات البلدية والنقابية والطلابية أخيرا، وبخاصة نقابات المهندسين والأطباء والمحامين، ففي انتخابات جامعة بيرزيت منيت حركة فتح وفصائل المنظمة بهزيمةٍ لا سابق لها، حيث حصلت كتلة الوفاء المقربة من حركة حماس على 28 مقعدا مقابل 18 لحركة فتح، وخمسة مقاعد للجبهة الشعبية، بينما لم تفلح الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب في اجتياز نسبة الحسم. باقي الفصائل التي تحظى بمواقع ثابتة في المجلس المركزي واللجنة التنفيذية وتحظى بموازنات شهرية سخية، مثل جبهة النضال والجبهة العربية وجبهة التحرير الفلسطينية وحزب فدا لم تشارك في الانتخابات أصلا.
ولا يقتصر التراجع على الجانب الوطني، بل يمتدّ ليشمل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، من تخلٍّ شبه كامل عن قطاع غزة، إلى تراجع مستمرٍّ في أوضاع الحريات العامة. فعلى الصعيد الأمني، تكاد السلطة تفقد سيطرتها على بعض المناطق، مثل محافظة الخليل التي تنهشها الصراعات العائلية المسلحة، وجنين، وأجزاء من نابلس وعدد من المخيمات، إلى أزماتٍ معيشيةٍ خانقة، تعبر عن نفسها بالعجز عن دفع رواتب الموظفين بشكل منتظم وكامل، وإضرابات المعلمين والأطباء بسبب إخلال الحكومة بالوعود التي قطعتها لهم. ذلك كله بينما تواصل القيادة توزيع المغانم من تعييناتٍ في وظائف مرموقة وترقيات لأبناء المسؤولين وأقاربهم.
لا تصبّ مجمل هذه التطورات في مصلحة فريق أو حركة معارضة، مثل حركة حماس مثلا التي ما زالت تمنع الانتخابات في قطاع غزة، لكن النتيجة المؤكّدة اتساع الفجوة بين القيادة ومؤسساتها من جهة وبين الفعل الميداني الشعبي والمقاوم الذي يجترح كل يوم إنجازات باهرة، ويقدّم تضحياتٍ هائلة، من جهة ثانية. ولكن الوضع القيادي والمؤسسي المترهل يحدّ من القدرة على مراكمة هذه الإنجازات، فضلا عن استثمارها لإنهاء الاحتلال ووقف معاناة الشعب الفلسطيني.
في أزمة المؤسّسة القيادية الفلسطينية!!
بقلم : نهاد أبو غوش ... 02.06.2022