بالنسبة لنا، نحن أهل الشرق العربيّ من المحيط إلى الخليج، نجتمع جميعاً في رئة فلسطين ورحَمِ شرايينها، ووحدها فلسطين قِبلتنا التي لا تشيخ ولا تغيب ولا تشبع، تتراقص على ضفاف حلم العودة، ولو كان ذلك بعد مئة عام من العزلة، أو مليون دهر من الانتظار، فلسطين وحدها، من ننتظرها على ناصيتي الوجع والأمل معاً، وذلك بغض النظر عن سياسات الأنظمة وسلوكيّات النّخب الحاكمة. فهذا الشعب العظيم، الذي يواجه واحداً من أعتى الاحتلالات العسكريّة في تاريخ العالم المعاصر، ويقدّم أرواح أبنائه لحظياً دفاعاً عن أرضه ومقدساته وحقوقه، هو اليوم في حاجة إلى ما هو أبعد من مجرّد المشاعر التلقائيّة الفياضة، التي نريقها على وسائل التواصل الاجتماعي، كلّما سمعنا عن هجوم هنا أو تصدّ هناك، أو نقلت لنا الأخبار العاجلة على شاشات التلفزيون صورة شهيد أو شهيدة، وهو سيكون أقدر دائماً على معاندة عدّوه عندما نمدّ له يد العون ونسنده كل من موقعه ومن جبهته.
جبال التعاطف الآني هذه، التي نبنيها مع كل قصّة إخباريّة جديدة عن فلسطين ما تلبث وتتلاشى خلال أيّام قليلة، تماماً كما يتلاشى ضباب المدن، ثمّ ننسى القصّة وابتسامات المعتقلين وجروحات الشهداء وحسرة الأمهات، ونمضي منها بأسرع مما أتينا إلى القصّة الإخباريّة التالية من ركن آخر من أركان العالم.
وهذا في الحقيقة ليس دلالة قصور عرقيّ في أمّة العرب، أو فقدان للحميّة نحو ذلك الشعب المقاوم، لكنّه نتيجة مباشرة لانخراط مجتمعاتنا برّمتها في الحلقة الجهنميّة لدورات تشارك الأخبار التي يقوم بها الإعلام العالميّ، وإيقاعاتها القائمة على ملء أسماعنا وأبصارنا بالعاجل منها، وقتل الحدث الحقيقيّ عبر إغراقنا بالتفاصيل المملة عنها طوال 24 ساعة، ناهيك بالطبع عن هندسة الخبر دعائياً كي يندرج، كما بيدق آخر، في سياق حروب السّرديّات المتصارعة.
عن دورة الحياة القصيرة القاسيّة
لقد وجدت أبحاث أجرتها شركات عالميّة مرموقة (مثلاً دراسة شركة غوغل وأكسيوس وسكيما 2018) أن متوسط عمر القصّة الإخباريّة (الكبيرة) يستمر لسبعة أيّام تقريباً في وعي الجمهور، قبل أن يبدأ ذلك الجمهور في الانتقال منها إلى الحدث التالي الهام.
وتشير دراسة أخرى (جامعة كورنيل) أن الأخبار الحزينة والسيئة تختفي من مركز اهتمام الجمهور بأسرع مما تفعل الإيجابيّة منها. فبينما تضرب الأولى بقوّة وقت وقوع الحدث، فإنّها تتلاشى بذات القوة لناحية قفز الوعي عنها وتناسيها، فيما تأخذ الثانية وقتاً أطول في التراقص على الشاشات والمواقع قبل الغياب.
وقد تنجح أحداث قليلة غير تقليديّة ومثيرة في تمديد حياتها إلى ما معدله 12 أسبوعاً من هامش اهتمام الجمهور، قبل أن تسقط بدورها في ثقب أسود غامض لا يرحم من الإهمال.
ولعل أحداثاً معقدّة متدرجة مثل فضيحة سياسيّة كبرى تتكشّف أوراقها تباعاً، أو حرب مدمرة في نقاط تماس تعني الدّول المهيمنة على منطق الإعلام قد تنجح بالبقاء لثمانية أو عشرة أسابيع بحد أقصى، قبل أن يُصيب الجمهور الإرهاق منها، ويفقد الاهتمام بمعرفة المزيد عنها.
وبالطبع، فإن هذه الدراسات أشارت إلى أن عمر القصص الإخبارية بين قطاعات الجمهور المختلفة يتناسب طرديّاً مع مدى تأثير تلك القصة مباشرة على ذلك القطاع المحدد دون الآخر، فيما تذبل أسرع كلما كانت قليلة أو عديمة التأثير المباشر عليها فلا شكّ مثلاً أن شخصاً ما سيتابع حدثاً ما يتعلّقفي مدينة له فيها أقارب أو مصالح لفترة أطول من شخص معرفته في إطار الحدث عابرة أو معدومة.
هذا النّسق السريع الإيقاع في تعاملنا مع أحداث العالم من حولنا مسألة طارئة مقارنة بعمر البشريّة التي قضت ملايين من السنوات دون حدوث أي (أخبار) استثنائيّة في عمر الفرد. وحتى لما أبرزت الحداثة أدواتها من صحافة واسعة الانتشار وإذاعات عابرة للحدود، وتلفزيونات، فإن تلك بعمومها أنتجت لجمهور محدود نسبياً قصصاً إخباريّة تعنيهم أساساً وقدمتها في إيقاعات يمكن السّيطرة عليها بشكل أو آخر. فما الذي حدث وأصبحت دورة الخبر أقصر فأقصر؟ ولماذا تنزلق العديد من المسائل الهامّة من قبضتنا بعد أيّام أو أسابيع قليلة؟
مجرمون كثيرون والضحية دائماً القضايا الكبرى
النظرية تقول إن هنالك عددا قليلا جدا من «الوقائع الحقيقية» التي تحدث بشكل يوميّ ومتسارع مقابل الكثير من الزّبد على السّطح. فبعد ظهور فكرة القنوات الإخباريّة التي تبث على مدار الساعة (بداية ب سي إن إن الأمريكيّة 1980 ولحقتها كثيرات عبر المعمورة) أصبح نشر الهراء المتلفز لحظياً والأخبار العاجلة حول الشيء واللا شئ صناعة كبرى، وتسابقت تلك القنوات على سرقة ساعات استيقاظ الجمهور من خلال مدّه مجاناً بتحديثات شبه لحظيّة حول ما يحدث عبر الكوكب والانتقال سريعاً بين القصص الإخباريّة دون تعمّق في أيّ منها.
ومن الجليّ أن بنية مجتمعاتنا المعاصرة المتشظيّة والمستقطبة سياسياً تزيد من قصر دورة الأخبار القصيرة أصلاً. وإذا لم يؤطر الناس الأحداث بطريقة مشتركة، فلن تستمر مناقشتها لفترة طويلة. وسيعود الجدل سريعاً للتمركز حول نقاط الخلاف الكامنة خلف الحدث لا الحدث نفسه، حتى تتوارى أهميّته في النقاشات الفلسفيّة العقيمة لا سيّما عبر تلك المنصات الافتراضيّة التي توفّرها وسائل التواصل الاجتماعي.
ويمكن بالطبع اعتبار عزل الناس عن السياسة وخيبة آمالهم المتكررة من قدرة السياسيين على الإتيان بتغيير حقيقيّ للأوضاع القائمة، وتعدد فضائح الأخبار الكاذبة التي ينقلها إعلام تسيطر عليه غالباً نخب فاسدة سبب آخر في تفضيل الناس لقضاء وقت أطول في إثارة نقاشات حادة حول هباءات.
فمتى نُعنى إذن بقضايانا الكبرى؟
إن الثمن الذي تدفعه المجتمعات البشريّة نتيجة الصيغة التي صار الإعلام عليها في عصرنا لناحية الانشغال بالمسائل الجانبيّة على حساب القضايا الكبرى لهو كبير جداً ومستفحل في عمقه. ولعل قضيّة فلسطين هي أكبر مثال عمليّ على ذلك. لقد تآمرت التكنولوجيا والأنظمة والإعلام معاً على تحويل مسألة وجوديّة تمس أمن ورفاه الوطن العربيّ كما مستقبله إلى نتف من قصص إخباريّة عاجلة: شهيد هنا اليوم، ثم اقتحام هناك غداً، واعتقالات مع نهاية الأسبوع ثمّ مؤتمرات تقتصر متابعة الجمهور لكل منها على ساعات قليلة، قبل أن يعودوا مجدداً إلى عزلتهم ونقاشاتهم الافتراضيّة وبرامجهم الترفيهيّة. لم تعد فلسطيننا للأجيال العربيّة الجديدة سوى خبر عاجل محزن آخر، موضوع فرجة لحظية لساعات، سرعان ما يمضي ويأتي محلّه في دائرة الاهتمام خبر جديد من جهة أخرى بهذا الكوكب. وحتى إن دفعنا تأنيب الضمير على أن نفعل شيئاً لأجلها، فإن مواقع التواصل الاجتماعي على تعددها كافية بمنحنا فرصاً كثيرة لتفريغ تلك الشحنة عبر نشر صورة الشهيد، أو تناقل أخبار الاعتقالات وربما كتابة سطور في الغضب الافتراضي الذي يوهمنا بكفايته!
فهل يكفيك فلسطيننا أن نغضب في الفضاء؟
كيف تموت القضايا الكبرى؟ فلسطين: قصص إخبارية عاجلة وغضب افتراضي!!
بقلم : ندى حطيط ... 29.04.2022