في تصعيد غير مسبوق، صنّفت إسرائيل ستة مراكز حقوقية فلسطينية ارهابية، وبالتالي تجريم عملها والعاملين فيها، وهي التي تؤدّي دوراً ضرورياً في المجتمع الفلسطيني في توثيق جرائم إسرائيل، وتقديم خدمات رعاية وتطوير للنساء والأطفال، وتأمين حماية قانونية واجتماعيةٍ لهم، وكذا لفئات واسعةٍ من المجتمع القابع تحت الاحتلال، بالإضافة إلى تمثيل حقوق الانسان الفلسطيني في منابر دولية. والمطلوب إسرائيلياً، كما هو واضح من القرار، حرمان الفلسطيني من أيّ حمايةٍ مجتمعيةٍ أو دوليةٍ عبر المؤسسات الدولية التي تدعم هذه المراكز، ما يزيد التضييق على الفلسطينيين، خصوصاً أنّ دعم المجتمع المدني لا يوفر إسناداً ضرورياً للفئات الأكثر عرضةً لتداعيات سياسات الاحتلال فحسب، بل هي توفر أيضاً فرص عمل وتطوير كفاءات وخبرات ضرورية لتنمية المجتمع الفلسطيني.
في الصورة الأوسع، الانقضاض الإسرائيلي على مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني سياسي بالدرجة الأولى، فإسرائيل لم تعد تحتمل أيّ اعتراف أو عمل يفضح ممارساتها محلياً ودولياً، ويعيد ترميم الإنسان الفلسطيني، ويقدّم له الأمل بالحفاظ على حقوقه الوطنية والإنسانية، لكنّ الغرض المباشر لهذه الخطوة، في الأمد المنظور، هو البدء بتجريم الأسرى ونزع شرعية حق الفلسطينيين في مقاومة إسرائيل. كما أنّ الخطوة الإسرائيلية جزء من مخطط أوسع، وليس مستبعداً أن تشمل منظمات مجتمع مدني أخرى، فمن غير المقبول لدى دولة الاحتلال استمرار شبكة حماية لأي قطاع اقتصادي أو اجتماعي فلسطيني، فنرى استهداف اتحاد لجان المرأة، واتحاد لجان العمل الزراعي، والحركة الدولية لحماية الأطفال، فرع فلسطين. إنّه هجوم على حقوق كلّ هذه الفئات، خصوصا في ضوء الاعتداءات المتزايدة للمستوطنين والجيش الإسرائيلي على المزارعين الفلسطينيين، على الأرضي الزراعية.
تتمتع كلّ هذه المنظمات بعلاقاتٍ دوليةٍ واسعةٍ ومؤثرة، لكنّ هذا لم يثن الحكومة الإسرائيلية عما تبدو عملية استباقية للقضاء على المنظمات الحقوقية والأهلية الفلسطينية، تمهيداً لضم نهائي للأراضي الفلسطينية، فمن منظور إسرائيلي لن تُحدث هذه الخطوة قلقاً في واشنطن بحجم ردة الفعل مع إعلان رسمي عن ضم أراضٍ من الضفة الغربية وغور الأردن، لكنّها امتحان لحجم (وطبيعة) الردود على خطوات تعتبرها ضروريةً لكبح النضال الفلسطيني، فإسرائيل ليست معنية هنا في منع عمليات مسلحة، أو وقف إطلاق صواريخ من قطاع غزة، بل بوقف النضال الشعبي اليومي، وبالمنظمات التي تكفل استمرارية هذا النضال، فليس مستغربا أن تكون مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، والتي تعنى بشؤون الأسرى، ومؤسسة الحق، وهي أهم منظمة حقوق إنسان فلسطينية، على رأس القائمة، فذلك يعني، من منظور قوة عسكرية محتلة، أنّ الدفاع عن الأسرى وحماية حقوق الإنسان الفلسطيني يضفيان شرعية قانونية وأخلاقية لكلّ أشكال النضال الفلسطيني، ليس دولياً فحسب، بل أيضاً في الوعي الجمعي الفلسطيني.
لا يمكن عزل الحرب التي أعلنتها إسرائيل على منظمات المجتمع المدني عن الضغوط الأميركية على السلطة الفلسطينية لكي تنهي بند دعم أسر الأسرى والشهداء من موازنتها، فالمبعوث الأميركي، العربي الأصل، هادي عمرو، كان واضحا في ترديد مطالب أميركية قديمة، لكنها مطروحة بقوة من إدارة الرئيس جوزيف بايدن، بنزع "هالة البطولة عن الشهداء والأسرى"، ووقف "سياسة مكافأة القتل"، كما يطلق أعضاء الكونغرس المؤيدون لإسرائيل على مخصّصات الأسرى وأسر الشهداء الفلسطينيين. وبالتالي، تصبّ محاولة تجريم مؤسّستي الحق والضمير دولياً في تحقيق الأهداف الأميركية – الإسرائيلية بإنهاء ملف الأسرى، واعتبارهم مجرّد "مجرمين وقتلة"، خصوصاً لما تتمتع المؤسستان من مصداقية دولية، إذ يجري استخدام بياناتهما وشهادات أعضائهما في الأمم المتحدة، والأهم في محكمة الجنايات الدولية، أو أي محكمة مستقبلية تسعى إلى محاسبة إسرائيل أو مسؤولين إسرائيليين عن جرائم الدولة العنصرية الاستيطانية ضد الشعب الفلسطيني. أي أن إنهاء قدرة منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، وهذا يشمل كل المؤسّسات التي تم تصنيفها "إرهابية"، فجميعها يتمتع بمصادقة عالية، وتعتبر مرجعية للصحافة العربية والدولية، وقد يكون هذا من خطرها كما تراه إسرائيل. والملاحظ أن القرار شمل مركز بيسان للبحوث والإنماء في رام الله، والذي يضع، في أهدافه دعم صمود الشعب الفلسطيني، من خلال بناء مجتمع نشط وضمان الحريات والعدالة الاجتماعية، وذلك قد يكون مؤشّرا على أن الحملة قد تشمل مؤسساتٍ بحثية فلسطينية أخرى، أو على الأقل تضع كل المراكز البحثية والحقوقية في خطر.
مهّدت إسرائيل لحملتها بحهد واسع لإقناع صناع قرار أميركيين وأوروبيين، بلغت ذروتها في عام 2017، أن المجتمع المدني الفلسطيني ليس إلا غطاء للإرهابيين، ووزّعت ورقة تشمل أسماء منظمات حقوقية فلسطينية، منها مؤسستا الضمير والحق، اللتان تتهمهما بالتبعية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعلى الأقل بانهما توظّفان أعضاء من الفصيل الفلسطيني اليساري. وواضح أن إسرائيل تحاول تثبيت هذه التهمة، إذ اعتقلت ثلاثة من أعضاء الجبهة، أبرزهم القيادي بشير الخيري، بعد أيام من تصنيفها المؤسستين إرهابيتين. وتوقيت هذه الاعتقالات مهم لربط المجتمع المدني بما تسميه إسرائيل "الإرهاب"، أي كل عمل مقاوم للاحتلال، على الرغم من أنّ ميثاق الأمم المتحدة يضمن حق الشعب الرازح تحت الاحتلال بمقاومة القوة المحتلة. وتهدف إسرائيل أيضاً إلى فصل متعمد بين نشاطات المجتمع المدني والشعب الفلسطيني المدنية بالعمل أو الفكر المقاوم، حتى لا يتم تجريم دولة الاحتلال أو وسمها بالإرهاب، فيصبح على الفلسطيني تبرئة نفسه من حقوقه بوصفه فلسطينياً، بل ومن نفسه.
الخوف أن يتم تجاهل الحرب المعلنة على المجتمع المدني الفلسطيني، فلم تصحبها خطة "ضم للضفة" أو قصف إسرائيلي، لكنها حلقة حرب بكل معنى الكلمة، فإسرائيل تعي تماما دور هذه المؤسسات في دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وتشكيل شبكة ضرورية خاصة في ظروف حصار أو حرب أو انتفاضة فلسطينية، ودورها في تثبيت لُحمة المجتمع الفلسطيني في مواجهة ما يواجهه الشعب الفلسطيني من تفكيك وتفتيت ممنهج.
المطلوب فلسطينياً وعربياً ودولياً عدم الاستخفاف بالقرار الإسرائيلي، فقد اعتبرت منظمتا "هيومان رايتس واتش" والعفو الدولية الخطوة الإسرائيلية "اعتداءً على حركة حقوق الإنسان الدولية"، وبالتالي هي اعتداء على حركة حقوق الإنسان العربية وحقوق الإنسان العربي نفسها. وجميع مؤسسات المجتمع المدني مطالبةٌ بموقف واضح في مسالة أخلاقية لا لبس فيها، لكنّ الرد الأخلاقي والسياسي والعملي هو في موقف المجتمع المدني العربي بشكل قطعي ضد التطبيع مع الدولة الصهيونية. ومن يتقاعس يشارك في الاعتداء على حقوق الإنسان الفلسطيني وحركة حقوق الإنسان العربية والدولية. وهذا نداء إلى جميع منظمات المجتمع العربية، فلا فائدة من معظم الأنظمة العربية، هو نداء للتذكير بأنّ من الممكن أن تكون هناك حركة حقوق مدنية أو حقوقية، من دون اتخاذ موقفٍ لا لبس فيه ضد التطبيع مع عدوّ يستهدف حركة حقوق الإنسان الدولية، فالاستمرار بالفصل بين الحقوق المدنية وحقوق الإنسان وحرب إسرائيل على حقوق الإنسان هو ضرب من الزيف والتواطؤ القبيح، لا يختلف عن المشاركة الفعلية في قمع الفلسطينيين.
لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على المجتمع المدني الفلسطيني؟
بقلم : لميس أندوني ... 02.11.2021