أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
أفغانستان: عن المسافة بين الصورة التلفزيونية والواقع!!
بقلم : ندى حطيط ... 20.08.2021

أفغانستان. أطول حرب في التاريخ الأمريكي، فقدت فيها الولايات المتحدة أكثر من 2400 جندي، وأنفقت تريليون دولار، أي ما يعادل 15500 دولار لكل أسرة أمريكية، فيما قتل عشرات الآلاف من المواطنين الأفغان، وكان للمبلغ الهائل الذي أنفق لقتلهم كافياً لمنح كل عائلة أفغانيّة مبلغاً يعادل دخل الفرد السنوي لمئة عام تقريباً.
ثم تسارعت الأمور بلا مقدّمات نحو انسحاب تام للقوات الأمريكيّة وفرار الرئيس، الذي كان يوفر له المحتلّون الحماية في مواجهة زحف شامل لقوات طالبان، التي وصلت إلى العاصمة خلال وقت قياسيّ في بلاد معروفة بطبيعتها الجبليّة القاسية.
المشاهد العربي اندفع لمواكبة محطات التلفزيون لمتابعة الحدث واستيعاب ذلك التحوّل المفاجىء. لكن العلاقة بين العمل الفكري والإعلامي التلفزيوني في العالم العربيّ وكأنّها تقوم على التناقض والتضاد بين مجال أول يحتاج إلى مسافة كبيرة من المعرفة والتأمل والتدقيق والتنقيب بحثاً عن المعطيات التكوينية للكشف عن جذور الأحداث ومسبباتها ودلالاتها الأبعد في إطار تحليل كليّ يأخذ بعين الاعتبار الإطار العام والسياق التاريخي، ومجال ثانٍ تبنى معطياته استناداً إلى شكليات الحدث (لا سيّما الصورة المتوفرة عنه) ويحتاج إلى الكثير من السّرعة والتّنافس في نقل الأخبار والمعلومات والتعليق الفوريّ عليها من قبل إعلاميين عديمي المعرفة في الخلفيات والدّاوفع، مع الاستعانة أحياناً بمن يطلق على واحدهم اسم «الخبير السريع» – على نسق الوجبات السريعة – الذين يدلون في وقت قصير للغاية لا يليق بأيّ تفكير عقلانيّ، بتصريحات متخمة بأحكام مسبقة عن الحدث، غالباً ما يعرفها جمهور المتلقين فيزدردها كوجبة فورية، بالكاد قبل تبخّر تلك التصريحات مع تطوّر الحدث التالي في مكان آخر من العالم، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة من التسطيح المستمرّ، واجترار صور مشوهة وخاطئة عن حقيقة الأحداث على الأرض.
هذا التصوّر عن تضاد الفكر والإعلام، وتلك المسافة التي لا تُجسر بين الصورة التلفزيونيّة والواقع – الذي سبق ووصفه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيار بورديو في كتابه عن التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول – ظهرا جليّاً مع تدحرج الحدث الأفغاني المتسارع هذا الأسبوع، إذ غرق مشاهدو التلفزة العربيّة بكمّ هائل من التغطيّة المسلوقة للحدث اعتمدت أساساً على اجترار المنتج الإخباريّ الغربيّ بشأنه، ومسارعة الإعلاميين إلى الإدلاء بدلوهم ذي الحبل القصير حول ما يتعلّق بخلفيات المشهد، فيما جيش من الخبراء السريعين إيّاهم يدلي أغلبه بأكوام من هراء معلّب سعياً لتقديم تفسير شامل مانع للمسألة الأفغانيّة في بضع دقائق خاطفات.
وانعكس هذا الأداء المبستر على طبيعة تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين أعادوا سرد ما سمعوه من اجترار واجتزاء وتغييب حقائق وكأنّها آراؤهم الخاصة، مع ازدرائهم الظاهر لكل رأي آخر.
في المقابل، كان هنالك استبعاد غير قليل لآراء علماء الاجتماع وأساتذة التاريخ الملمين بأوضاع الإقليم، وأيضاً للمراقبين المتخصصين في دواخل اتخاذ القرار في واشنطن. وهو ما حرم الجمهور العربيّ من الحصول على صورة أقرب للحقيقة حول ما يجري، وتسبب ربّما في تصعيد ذلك الاستقطاب الحاد للآراء على مواقع التواصل الاجتماعيّ بشأن أفغانستان.
لكنّ جولة سريعة على المصادر العلميّة المتخصصة تظهر وجود معطيّات أساسيّة لا يمكن من دونها فهم طبيعة الحدث الأفغاني وتمّ تجاهلها من قبل وسائل الإعلام، أو هي لُمست في إطار كلاشيهات كلاسيكيّة فحسب: العقيدة الأوباميّة في التعاطي مع الإسلام السياسيّ عموماً وتأثيرها داخل إدارة الرئيس بايدن الحاليّة، والنّظام القبلي النادر للحكم المحليّ والحياة الاجتماعيّة في البلاد الواقعة في قلب فضاء التقاطع بين قوى طامحة: الصين والهند وروسيا وإيران، إضافة إلى تركيّا، ناهيك بالطبع عن الفشل التام للمشروع الأمريكيّ في تأسيس دولة حديثة قابلة للصمود ولو لساعات بعد رحيل راعيها المحتلّ.
الأوباميّة: عاش الرئيس وعاش الملك أيضاً
بينما كان بايدن في يناير/كانون الثاني هذا العام ينقل حقائبه للانتقال إلى مقرّ السكن الرسميّ في البيت الأبيض إيذاناً ببدء ولايته الرئاسيّة، كان الجميع يعلم بأن الملك المتوّج فعلياً في واشنطن لم يكن سوى الرئيس السابق باراك أوباما الذي يملأ موظفون عملوا في إدارته غالبية المناصب المؤثرة في الإدارة الجديدة.
وفي الحقيقة، فإن حكومة بايدن تهيمن عليها منهجيّة التفكير الـ»أوباميّة» أكثر مما كانت حكومة أوباما ذاتها أيّام عهده في السّلطة.
أوباما في ولايته الثانية خفف بشكل كبير عديد جنود الأمريكيين في أفغانستان وبنى أوثق العلاقات مع الإسلام السياسي، خلال فترة الربيع العربيّ. ولذلك فإن طاقمه السابق المتجدد يأخذ استراتيجيات الرئيس الجديد بايدن ذات النهج الأوباميّ، الذي يقدّر فكرة التعايش مع الحركات الإسلامية حول العالم، وهو في الواقع وقع اتفاقاً مع طالبان على انسحاب القوات الأمريكيّة من أفغانستان في 2020. إذن لا مفاجآت هنا.
القبليّة: البشتون السنّة
أفغانستان واحدة من البلاد القليلة التي لم يتسن لاستعمار أن استقر بها وهي أحد الأماكن النادرة في قدرتها على تحمل غزوات طويلة المدى وامتصاص هجمات لا هوادة فيها في مختلف أنواع الأسلحة، وسرّها في ذلك ليس مقتصراً على طبيعتها الجبليّة القاسية، بل ونظم اجتماع سكانها الذين تغلب عليهم إثنية البشتون، ونجحوا عبر القرون في الحفاظ على استقلالهم، بينما تتعاقب عليهم الإمبراطوريّات التي ما تلبث تلملم أوراقها بسرعة وترحل.
المناطق القبلية البشتونية التي تمتد عبر الحدود بين أفغانستان وباكستان صمدت أمام كل محاولات إخضاعها لسلطات مركزيّة، دون أن يعني ذلك مطلقاً انتشار الفوضى، فالبشتون الذين يزيد عددهم على الأربعين مليون نسمة لديهم نظام حكم محليّ بديل تمنع قواعده بوضوح إنشاء أي سلطة مركزية، وعندهم منظومة أعراف قبليّة قاسيّة تجعلهم قادرين على المراوغة ضد المحتل.
وتتم عمليّات صنع القرار لديهم عبر توافق الآراء، مما يصعّب، لحد الاستحالة أحياناً العمل بشكل موحد، ومع ذلك عند مواجهة تهديد خارجيّ يمكنهم التوحد على قلب (ديكتاتور) مؤقت حتى يتم القضاء على التهديد.
ويجب ألا ننسى أن الأيديولوجيا الإسلاميّة (السنيّة) عززت هذه الأعراف وكرّستها منهج عيش. وهؤلاء سواء طال الأمر أم قصر فلن يستمروا في العيش تحت المحتل، وبإمكانهم استنفار كل رجل للقتال دون تفكير بالعواقب.
حصان طروادة: الفساد وفشل مشروع الدّولة الحديثة
انتشرت قصص في جميع أنحاء كابول حول وزراء حكومة الرئيس الفار أشرف غني، الذين يحاولون مغادرة البلاد في سيارات مليئة بأوراق الدولار.
تلك كانت حصص شخصيّة للفريق الحاكم من الأموال الطائلة التي قدمتها الولايات المتحدة لأفغانستان.
ومن الواضح أن الفساد أضر بشكل كبير بالنظرة إلى الأمريكيين وبشرعية الحكومة الأفغانية، وعزز الدعم الشعبي لطالبان. وهكذا فور فرار الرئيس، تبخر جيش مكوّن من 300 ألف بلا أثر، وعاد الجنود إلى ديارهم، فلا أحد مستعد للموت في سبيل مجموعة من اللصوص.
إلى أين؟ من هنا نبدأ
لا يمكن بالطبع الجزم بشكل مستقبل في هذا البلد الحزين أو أفضل السبل للتعاطي معه كدول عربيّة، لكن أي تفكير في ذلك الاتجاه يعتمد بالأساس على تغطيّة التلفزيونات، دون تفهّم ديناميات صنع القرار في واشنطن، والطبيعة القبليّة الخاصة للشعب الأفغاني، كما والأبعاد الفضائحيّة للمشروع الأمريكي في محاولتهم الفاشلة بجدارة لبناء دولة حديثة في قلب مجتمع قروسطيّ الأجواء سينتهي دائماً إلى ترديد ذات الكليشيهات، التي تزكم فضاء الإعلام العربي المتلفز وتفتقد إلى القيمة.

1