(دخلت جيوش سبع دول عربية فلسطين وإعلامها الدبلوماسي العلني يتحدث عن تحريرها من العصابات الصهيونية الغازية بينما الدبلوماسية السرية لحكوماتها ملتزمة بتقسيم فلسطين وتقاسمها معها)
عندما تكون الاستراتيجية المعتمدة هي استراتيجية "الحياة مفاوضات" يكون من المتوقع أن تلجأ القيادة الفلسطينية إلى دبلوماسية التفاوض السرية عندما تفشل المفاوضات العلنية، كما حدث فعلا طوال ما يزيد على العشرين سنة المنصرمة عندما انطلقت عملية التفاوض بعد سنين من الاتصالات والمفاوضات السرية من خلف ظهر الشعب الفلسطيني ومؤسساته الرسمية والمدنية.
وكان اللجوء إلى قناة أوسلو السرية من وراء ظهر الوفد الفلسطيني الذي كان يدير مفاوضات علنية غير ناجحة في واشنطن أوائل تسعينيات القرن العشرين الماضي برئاسة المرحوم حيدر عبد الشافي مثالا ساطعا.
وبعد فشل الجولة الأخيرة للمفاوضات لا يحتاج المراقب إلى "الضرب بالمندل" للاستنتاج بأن القيادة تبحث الآن عن دهاليز توجد وفرة منها، عربية وغير عربية، لاستئناف دبلوماسيتها السرية، فالقيادة ما زالت نفسها واستراتيجيتها كذلك.
لقد كانت الدبلوماسية السرية كارثة قومية وفلسطينية في ثمارها الملموسة الان، ولا يمكن تجاهل نتائجها المدمرة، فالنكبة العربية في فلسطين كانت من ثمارها، إذ دخلت جيوش سبع دول عربية فلسطين وإعلامها الدبلوماسي العلني يتحدث عن تحريرها من العصابات الصهيونية الغازية بينما كانت الأوامر الواردة لها من حكوماتها ملتزمة بموافقة الدبلوماسية السرية لتلك الحكومات على تقسيم فلسطين وتقاسمها مع الحركة الصهيونية.
والدبلوماسية السرية العربية هي التي أثمرت معاهدتي الصلح المنفردتين بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين كل من مصر والأردن وكذلك تبادل التجارة والممثليات التجارية والاتصالات الأمنية والسياسية السرية بينها وبين العديد من الدول العربية الأخرى، في معزل عن شعوبها ومشاركتها ورقابتها وبالضد من إرادتها الحرة، وهو ما قاد إلى محاصرة عرب فلسطين في مأزقهم التاريخي الراهن.
في مقال له نشرته "ذى تلغراف" البريطانية في الثالث عشر من كانون الأول/ديسمبر عام 2010 كتب العميد المتقاعد من جيش الاحتلال مايكل هيرتزوغ، الذي شارك في كل مفاوضات دولة الاحتلال مع منظمة التحرير الفلسطينية والعرب منذ عام 1993: "أثبتت القنوات الخلفية أنها فعالة بصفة خاصة في حالة مفاوضات السلام الإسرائيلية – العربية. وفي الحقيقة لقد ساعدت في إبرام كل اتفاقيات إسرائيل للسلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية".
لقد اشترط وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ووافقت القيادة الفلسطينية وجامعة الدول العربية الحاضنة لاستراتيجيتها، على أن تكون المفاوضات "العلنية" التي رعى كيري جولتها الأخيرة لمدة تسعة أشهر منذ أواخر تموز/يوليو الماضي مفاوضات "سرية".
ولا يحتاج المراقب إلى "الضرب بالمندل" أيضا ليكتشف السبب في حرص دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي على سرية المفاوضات، حتى "العلني" منها.
فإطار هذه المفاوضات ومرجعياتها وأهدافها المعلنة والنتائج الكارثية لأكثر من عقدين من الزمن من عمرها تتجاوز الخطوط الحمر لثوابت الشعب الفلسطيني الوطنية، لذلك فإن اطلاعه على حيثياتها وتفاصيلها هدد دائما ويهدد الآن بإفشالها إن لم تفشل لأسباب ذاتية، ومن هنا حرص المتفاوضين الدائم على إبقاء الشعب الفلسطيني في الظلام.
إن وعد الرئيس محمود عباس بعرض أي اتفاق تفاوضي يتم التوصل إليه على استفتاء شعبي لم يعد مسوغا كافيا للقبول باستمرار تجهيل الشعب الفلسطيني بما يدور وراء الأبواب المغلقة بشأن حاضره ومستقبله وباستمرار تغييب مؤسساته الرسمية والمدنية عن تفاصيل ما يدور.
فحرية القيادة في اتخاذ القرارات على مسؤوليتها اللاحقة أمام المؤسسات قد تصلح للحكومات في الشأن الداخلي في الدول المستقلة ذات السيادة، لكنها لا تصلح عندما يتعلق الأمر بتقرير مصير ومستقبل شعب تحت الاحتلال، كما هو الحال الفلسطيني، وحتى في الدول ذات السيادة تخضع الحكومات للرقابة المستمرة من المؤسسات المنتخبة ولا تستدعى هذه المؤسسات كل بضع سنوات كي "تبصم" فقط على قرارات لم تشارك في صنعها.
ألم يكن هذا هو الحال الفلسطيني الذي غيّب، مثلا، المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية لمدة تزيد على عشر سنوات حاسمة في التاريخ الوطني منذ "إعلان الاستقلال" عام 1988 حتى دعوته إلى الانعقاد عام 1999 برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لإفراغ ميثاق المنظمة من محتواه الوطني والعربي، ليظل مغيّبا بعد ذلك حتى عام 2009 عندما استدعي لإضفاء شرعية المنظمة على الوضع الناجم عن الانقسام الوطني قبل أن يستدعى مؤخرا هذا العام لإضفاء شرعية المنظمة على قرار قيادتها باستمرار التزامها باستراتيجية المفاوضات، ثنائية كانت أم متعددة، برعاية أميركية أم مدوّلة، بعد أن أكد فشل جولتها الأخيرة فشلها كاستراتيجية يكاد الشعب الفلسطيني يجمع على ضرورة التوافق الوطني على استراتيجية وطنية بديلة لها.
وقد غيبت منظمة التحرير ذاتها وهمشت، وغيب وهمش معها معظم شعبها خارج الوطن المحتل المفترض انها ممثلة له وأجلت استراتيجية التفاوض قضية لجوئهم ومنافيهم إلى "الوضع النهائي"، لصالح إبراز سلطة للحكم الذاتي الفلسطيني تحت الاحتلال تعترف بها دولة الاحتلال وراعيها الأميركي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، فعزلت القدس وغيبت، وأخرج أقل من مليوني مواطن من فلسطينيي 1948 من استراتيجية التفاوض الفلسطينية بصفتهم "مواطنين إسرائيليين"، إلخ.
إن الاستمرار في هذه الاستراتيجية يعني استمرار تغييب منظمة التحرير، واستمرار تغييبها بالرغم من الاتفاق على تفعيلها بموجب اتفاقي المصالحة الوطنية في القاهرة والدوحة يهدد بإجهاض اتفاق المصالحة الأخير في غزة الذي اعتمد اتفاقي القاهرة والدوحة مرجعية له، مثلما أفشل عدم تفعيلها اتفاقيات المصالحة السابقة جميعها.
عندما أعلن وزير خارجية دولة الاحتلال أفيغدور ليبرمان السبت الماضي عن اتصالات فلسطينية وعربية تجري سرا وقال إنه "لا يوجد أي ركود" في العمل الدبلوماسي بالرغم من انتهاء الجولة الأخيرة للمفاوضات رسميا لم تنف المنظمة، لكن مفوض العلاقات الدولية في حركة فتح التي تقود المنظمة، عبد الله عبد الله، أكد اللقاء "السري" الذي انكشف بين الرئيس عباس وكبيرة مفاوضي دولة الاحتلال، تسيبي ليفني، في لندن الأسبوع الماضي عندما قال إن اللقاء "لم يكن تفاوضيا"!
لكن السلطة الفلسطينية "نفت" التقرير الذي نشرته "يديعوت أحرونوت" العبرية في السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي عن وجود "قنوات محادثات سرية طوال سنوات عديدة" بين عباس وبين رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
غير أن هذا النفي يظل موضع شبهة في ضوء تجربة النفي الأردنية لوجود قنوات مماثلة طوال عقود من الزمن قبل توقيع معاهدة وادي عربة، وتجربة النفي المصرية قبل توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وتجربة النفي الفلسطينية قبل اعتراف الولايات المتحدة بمنظمة التحرير.
والرئيس عباس نفسه لا يرى حرجا في الدبلوماسية السرية، فهو على سبيل المثال اقترح علنا في مقابلة مع "هآرتس" العبرية في الشهر الثالث من عام 2006 فتح "قناة محاثات خلفية" مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وكان هو نفسه الذي قاد قناة أوسلو "الخلفية".
في ضوء النتائج الكارثية للتجربة الفلسطينية التاريخية في الدبلوماسية السرية، لم يعد مفيدا أو مقبولا الاستمرار في ممارسة هذه الدبلوماسية فلسطينيا حتى لو استمرت عربيا.
كارثة الدبلوماسية السرية الفلسطينية!!
بقلم : نقولا ناصر* ... 24.05.2014