نشهد هذه الأيام جدلاً كثيراً حول احتمال التوصل إلى اتفاق ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل برعاية أمريكية ومشاركة أو مباركة من أطراف عربية أخرى أهمها على الإطلاق الأردن.
ما تريده إسرائيل معروف، وهو الاستيلاء على كل أرض فلسطين خالصة دون أي مشاركة أو وجود للشعب الفلسطيني عليها. وما يريده الفلسطينيون معروف أيضاً، وهو أكبر مساحة ممكنة من فلسطين بما فيها القدس لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة دون أن يؤدي ذلك إلى الانتقاص من أي من حقوق الشعب الفلسطيني بما في ذلك حق العودة. أما ما يريده الأردن فهو الأمر الغامض وغير المعروف بالضبط. والأهم من ذلك ما هو الدور المناط بالأردن ومن هي الجهة التي ستحدد هذا الدور وطبيعته؟
عندما يتعلق الأمر بفلسطين والحلول المرجوة، أو المطروحة لقضية فلسطين، يصبح من الضروري التأكيد على أن ما يريده النظام الأردني ويرغب به، أو يسعى إليه، أو يوافق عليه قد لا يأتي منسجماً مع ما يريده الشعب الأردني أو يقبل به أو يوافق عليه. وكما جاءت اتفاقية وادي عربة (معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل) تتويجاً لعلاقة سلام بين إسرائيل والهاشميين، كما صرح بذلك اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الحين، فإن ما يجري الآن من مفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل والتي يصر النظام الأردني على أن يكون جزءاً منها قد تؤدي إلى نتيجة مماثلة.
السياسة الخارجية الأردنية تدار الآن مباشرة وعلانية من قبل الملك شخصياً ومن خلال الديوان الملكي، أما رئيس الحكومة فقد يَعْلم وقد لا يُعْلَم بما يجري. وهذا الوضع يشكل مخالفة دستورية واضحة كون إدارة سياسة البلد الخارجية والداخلية هي من مسؤوليات الحكومة التي تخضع لرقابة ومساءلة مجلس النواب. ولكن واقع الحال أقوى وهنا مكمن الخطر فيما يمكن أن تؤول إليه الأمور. وانطلاقاً من ذلك، فإن المسار الذي يحكم العلاقة الفلسطينية – الأردنية هو مسار شخصي وعلاقة فردية بين ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية. وقد لا يختلف هذا الوضع كثيراً عن العلاقة بين أي زعيم عربي وآخر. ولكن الوضع يختلف في الحالة الأردنية ـ الفلسطينية من زاويتين. الأولى وجود عنصر ثالث مؤثر بل وحاكم لمجريات تلك العلاقة ومداها وهذا العنصر هو إسرائيل. والثانية هي الاختلاط والتمازج البشري والاجتماعي والسياسي بين الشعبين الأردني والفلسطيني، والذي سبق وحدة الضفتين وتعدى فك تلك الوحدة، أي أن هذه العلاقة الشعبية أثبتت أنها متجذرة وعابرة لكل الترتيبات السياسية الرسمية الأخرى، ولا يحق لأي شخص او حكومة أو حاكم أن يفترض أنه يستطيع تجاوزها، وفرض حقائق جديدة قد تتناقض جزئياً أو كلياً مع آمال وطموحات كلا الشعبين.
من نافلة القول أن وجود الأردن واستقراره كان دائماً مرتبطاً بدوره كحاضنة للنتائج الكارثية لما يجري في دول الإقليم المحيطة به وأهمها بالطبع فلسطين. ويبدو أن الحكم الأردني مقتنع بأن استمراره هو أيضاً مرتبط بقدرته على التجاوب مع هذا الدور ومع ما هو مطلوب منه ومدى قدرته على النجاح في تنفيذ المهام المناطة به.
من طبيعة الأمور أن الوطنية الأردنية المرتبطة بالدولة والمواطنة قد استمرت في النمو والنضوج منذ تأسيس الدولة، إلى أن ابتدأت الآن تدخل مرحلة البلوغ السياسي، الذي يعكس وعياً متزايداً لدى الشعب الأردني وقدرة متنامية على تحديد مصالحه، والاعتراض فيما لو كانت تلك المصالح متناقضة مع مصالح النظام أو سياساته. وهذا، على ما يبدو، ما نحن مقبلون عليه.
الحديث المتواتر هنا وهناك عن آفاق المفاوضات والأفكار التي تحكم مسارها، وبالتالي معالم التسوية، تشير إلى أن موضوع “الأمن” وبالتحديد “أمن إسرائيل” سوف يكون هو المدخل إلى المفاوضات لأن إسرائيل إذاً “ارتاحت أمنياً” تتحسن فرص التعامل معها في باقي القضايا قيد البحث، وذلك حسب تصريحات جون كيري وزير الخارجية الأمريكية. وهذا التبسيط للأمور يهدف إلى خداع الجانب الفلسطيني والرأي العام العربي . فالموضوع “الأمني” بالمفهوم الإسرائيلي يعني كل شيء، وهو كأخطبوط له أذرع متعددة تقضم الأراضي تحت شعار الأمن، وتصادر السيادة الفلسطينية تحت شعار الأمن، وتُبقى قوات الاحتلال في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية تحت شعار الأمن، وتمزق أوصال المناطق الفلسطينية وتمنع تواصلها تحت شعار الأمن، وتطمح إلى التبادل السكاني والنقاء اليهودي للدولة العبرية تحت شعار الأمن، وتصادر الأرض والسماء والبحار وما في داخلها تحت شعار الأمن!
ترى هل يستطيع جون كيري أن يحدد سلفاً ما معنى “الأمن” لإسرائيل وحدود ومحددات ذلك الأمن ؟ وهل سيتم التعامل مع امن الفلسطينيين بنفس الدرجة من الاهتمام التي تُعطى لأمن الإسرائيليين؟ أم أن أمن الفلسطينيين خاضع لأمن الإسرائيليين ويأتي في الدرجة الثانية وكمحصلة طبيعية لأمن الإسرائيليين؟
الأردن دولة ضعيفة، وإصرارها على أن تكون طرفاً في عملية التفاوض تحت شعار حماية المصالح الأردنية يعني أن الأردن سوف يتم استعماله من قبل الأقوياء، أي أمريكا وإسرائيل، لتسهيل مرور العديد من القرارات المعادية للمصالح الفلسطينية والعربية.
السؤال الكبير إذاً لماذا هذا التكالب الأردني الرسمي على زج الأردن في أتون المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية؟ الهدف من هذا التساؤل هو إنقاذ الأردن من تبعات هذه المفاوضات وليس استثناءه منها. وأي محاولة من قبل البعض للايحاء بأن هذا التساؤل وهذا الموقف يعكس نَفَساً إقليمياً أو سلبياً مردود على قائليه، لأن أي نمط من العلاقة بين أي طرف عربي وإسرائيل يسير دائماً باتجاه واحد هو مصلحة إسرائيل، و”اتفاقية وادي عربة” بين الأردن وإسرائيل هي أكبر دليل على ذلك.
تمر عملية توريط الأردن في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية الحالية بخمسة مراحل:
المرحلة الأولى : خلق انطباع شعبي أردني بأن الدخول في المفاوضات هو لحماية الحقوق الوطنية الأردنية من خلال الايحاء الخاطىء بأن الحل قد يكون على حساب الأردن فيما لو غاب عن تلك المفاوضات.
المرحلة الثانية: البدء في طرح قضايا قد لا تكون فعلاً قيد البحث الآن، ولكن تُستعمل لتبرير دخول الأردن حلبة المفاوضات مثل قضية اللاجئين وحق العودة والتعويضات، انطلاقاً من المفهوم الخاطىء والشرير الذي يعتبر التعويض حق للحكومات وليس للأفراد. إن الحديث عن التعويض باعتباره حقاً للحكومات هو أمر مرفوض لأن المؤكد أن الأموال سوف تسرق ابتداءً ولأن توقيعاً واحداً لحكومة ما على قبول التعويضات وبالتالي التنازل عن العديد من الحقوق هو أسهل من الحصول على عدة ملايين من التوقيعات. وهذا الموضوع الذي رفضه العديد عندما طرحه بعض المسؤولين الأردنيين قبل أكثر من ربع قرن لا زال مرفوضاً والنوايا المختبئة وراءه ما زالت مشكوكاً بها.
المرحلة الثالثة: الاشتراك فعلاً في المفاوضات وبالتالي تبرير الدور المرسوم للأردن من خلال المفاوضات الجارية الآن بين الفلسطينيين والإسرائيليين وخصوصاً ما يتعلق بالشق الأمني ووادي الأردن والحدود.
المرحلة الرابعة: الاستناد إلى المظلة العربية لإعطاء هذا الدور الأمني للأردن في فلسطين الشرعية العربية اللازمة لتمريره شعبياً خصوصاً بين أوساط الأردنيين والفلسطينيين.
المرحلة الخامسة: تسويق هذه النتائج داخلياً باعتبارها نصراً عظيماً للدبلوماسية الأردنية وللحكم وإنجازاً للأردن.
إن حقيقة ما هو مطلوب من الأردن إذاً يتمثل في المساهمة في حل المشكلة الإسرائيلية وليس حل القضية الفلسطينية، والفرق بين الإثنين كبير. وحيثما يكون من الصعب على السلطة الفلسطينية القبول بترتيب ما بشكل علني، حتى ولو كانت قابلة به بشكل سري، يصبح وجود الأردن في المفاوضات وسيلة لتسهيل تطبيق ذلك الترتيب. وهذا ينطبق بشكل رئيسي على الترتيبات الأمنية والسيادية المتعلقة بوادي الأردن أو بالأصح “منطقة الغور” وكذلك الحدود المشتركة بين أراضي السلطة الفلسطينية والأردن. ومن المتوقع أن يتم استبدال الوجود العسكري الإسرائيلي في بعض تلك المناطق بوجود عسكري أردني. وفي ظل التقدم التكنولوجي الهائل يصبح هذا الوجود رمزياً يسهم في تدمير آمال الفلسطينيين بالسيادة على أراضيهم، مع تحول الاحتلال العسكري الإسرائيلي إلى احتلال تكنولوجي بواسطة معدات مراقبة وسيطرة الكترونية. إن زج الأردن في المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية الجارية حالياً يشكل إذا مدخلاً لإرغام الأردن على حمل وزر التنازلات التي قد تعطيها السلطة الفلسطينية لإسرائيل.
ولكن ما الفائدة التي تعود على الأردن من ذلك؟ أمريكا هي صاحبة الفكرة، وإسرائيل تعلم ان زج الأردن في المفاوضات لن يغير شيئاً والسلطة الفلسطينية الحاكمة لا خيار آخر لديها، والحكم في الأردن يعتبر ذلك منسجماً مع مبررات وجوده ودوره في المنطقة. وهكذا يكون الجميع بخير إلا الشعب الفلسطيني والشعب الأردني اللذين أرغما على مقايضة مستقبلهما ومصالحهما بحلم كاذب قد ينقل الصراع من فلسطيني – إسرائيلي إلى فلسطيني – أردني فيما لو أخذ هذا الترتيب مداه الأمني النهائي.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد يؤدي هذا التطور، فيما لو حدث، إلى توتير الأوضاع الداخلية في كل من فلسطين والأردن. وقد نشاهد تصعيداً في التوتر داخل الأردن يعكس حقيقة التناقض بين ما يريده النظام وما يريده الأردنيون، تماماً كما سيكون عليه الحال في فلسطين.
أما ما يتعلق بمطلب إسرائيل الاعتراف بيهودية الدولة ومحاولة مقايضتها ببعض الحقوق الفلسطينية، ومنها حق العودة، فإن في ذلك خطورة تفوق أي شيء آخر. فهي من جهة تحول حقوق الفلسطينيين إلى أكذوبة، وتجعل من نضالهم وكفاحهم المسلح إرهاباً، وبذلك تعيد كتابة التاريخ الفلسطيني . وهذا الاعتراف يفتح الباب أمام إسرائيل للتخلص من سكانها العرب وتجعل حق العودة خرافة. إن الاعتراف الفلسطيني، وما قد يتلوه من اعتراف عربي، بيهودية الدولة إنما يهدف إلى إعادة كتابة التاريخ ليكرس أكذوبة نفاها التاريخ أصلاً، كما يعطي شرعية لأي إجراء إسرائيلي يهدف إلى التخلص من السكان العرب في فلسطين التاريخية. هل يريد الأردن أن يكون جزءاً من هذا المسار؟ هل يريد الأردن ذلك فعلاً ولمصلحة من؟
وداعاً لفلسطين: دور الأردن في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية!!
بقلم : د. لبيب قمحاوي ... 14.01.2014