التغيّرات المناخية التي تحلّ بكوكبنا لا تنفع البشر في شيء بل تهدد مستقبل حياتهم على الأرض، لكن موجة الجفاف التي حلّت بإسبانيا مؤخرا أفادت بعض من ظلوا على قيد الحياة من قرى غمرتها مياه السدود، فظهرت مجددا لتزيل الغبار عن ذاكرة بعض المسنّين وتعود بهم إلى أيام الطفولة.
المويدرة/ صوريا (إسبانيا) - لا يستطيع العجوز بيثنتي نييتو (86 عاما) مغالبة دموعه التي انحدرت من مقلتيه عندما يتذكر بلدة المويدرة، مسقط رأسه، والذي اضطر إلى هجرتها في الـ14 من عمره بسبب بناء السد، والمياه التي غمرت القرية جراء ذلك. لكن الآن ونتيجة لموجة الجفاف التي ضربت إسبانيا وتراجع منسوب المياه في البحيرات التي تكونت خلف السدود على مجاري الأنهار، فقد تم الكشف عن الكثير من معالم القرى التي ظلت مغمورة بالماء للعشرات من السنين، ومن بينها المويدرة، بمنازلها الحجرية وبرج جرس الكنيسة.
ويتكرر هذا المشهد في العديد من مناطق إسبانيا، فبسبب شح الأمطار بدأت الكثير من القرى والمدن تستعيد ذاكرة قصص العشرات من القرى ظلت طوال عقود مغمورة بالماء تحت مياه بحيرات تكونت خلف سدود على مجاري الأنهار الصغيرة التي تشتهر بها إسبانيا، والتي بني أغلبها أثناء الحقبة الدكتاتورية للجنرال فرانسيسكو فرانكو (1939-1975).
“يعتصرني الألم والحزن حين أرى أمام عينيّ معالم المويدرة. صحيح أنا كبير في السن، لكن لا أستطيع مغالبة دموعي. هناك كان لدينا بيت، حظيرة بها أبقار وماعز وعدد من المهور، كما كان لدينا بستان كبير مترامي الأطراف، كانت الخراف تمرح بين أرجائه. أتذكر كل ذلك كما لو كان البارحة أو اليوم”.. يحكي بيثنتي المقيم حاليا في بلدة بينويسا، شمال مدينة صوريا، بإقليم أراجون، التي تبعد أقل من خمسة كيلومترات عن بلدة المويدرة.
وانتقلت أسرة بيثنتي المتكونة من الأب والأم وثلاثة أشقاء إلى بينويسا عندما أقرت حكومة فرانكو إقامة مشروع سد كويردا ديل بوثو، الذي افتتح عام 1941، مما تسبب في غرق القرية، بحسب شهادة بيثنتي، وكان نشاط السكان وقتها يعتمد على الرعي والزراعة، الحبوب بصفة خاصة، مثل القمح والشعير والشوفان، ولكن كانت هناك أيضا بساتين فاكهة تسقى بمياه نهر الدويرو.
وبسبب موجة الجفاف الحالية، الأصعب منذ عقود في إسبانيا، طفت على السطح أعمدة وعقود وباكيات المنازل في المويدرة، وبرج جرس الكنيسة بأقواسه، والذي بات من المرجح أن يظهر بالكامل للعيان مع استمرار تراجع منسوب المياه، كما بدأت تتضح معالم الأقواس الحجرية لورشة الحدادة التي كانت موجودة على ضفاف نهر الدويرو، ثالث أطول أنهار إسبانيا.
وأمام برج الكنيسة، ظهر أيضا هيكل شجرة دردار كان بيثنتي ورفاقه يلعبون تحتها أيام الآحاد في طفولتهم. يقول العجوز “كان جذعها مجوفا، فكنا نختبئ فيه، كنت وقتها طفلا صغيرا، وكانوا يعطون لكل واحد منا 5 سنتيمات لشراء الفول السوداني من حانة البلدة الوحيدة، التي كنا نطلق عليها (حانة العم ذو اللحية)”.
“في عام 1930 امتلأت المويدرة بعمال البناء الذين شاركوا في تشييد السد، في المقابل نزح سكانها إلى قرى أخرى مجاورة، وسرعان ما أصبحت قرية مهجورة وغمرت المياه مبانيها”، يأسف العجوز، الذي كان يتصور في طفولته أن المويدرة سوف تنهض من تحت الماء لتقوم في مكان آخر بعد بناء السد.
ويتذكر بيثنتي أن آخر عائلة هجرت القرية أواخر الثلاثينات من القرن الماضي كانت أسرة مانويل رودريغث، معلم القرية، مضيفا أن مانولي ابنة المعلم عمرها الآن 83 عاما ولا تزال تتذكر المكان الذي عاش فيه والداها واضطرا إلى هجرته حينما كان عمرها 12 عاما بعد أن غمرته المياه.
وتعيش مانولي حاليا في قرية رينيبلاس القريبة من صوريا، وتحكي ذكرياتها عن تلك الفترة قائلة “كان والدي في النهاية يذهب إلى مدرسة القرية ليعطي دروسا لطالب واحد، للأسرة الأخيرة المتبقية معنا. ولهذا اتفقت الأسرتان على وضع مصباح أمام منزليهما ساعة النوم لتتأكد كل واحدة أن الثانية بخير”.
وبالرغم من تجاوزها الثمانين، فإن الحنين لا يزال يراودها للتردد على ملاعب الصبا لترى كيف صار حال المويدرة بعد أن انحسرت المياه عن مبانيها وظهرت معالمها بوضوح وفي هدوء تام على السطح، في مكان لا يسمع فيه سوى خرير المياه القليلة المتبقية وثغاء الماعز التي ترعى على ضفاف البحيرة أو ما تبقى منها.
“الطريف في الأمر أن لديّ رهابا من الماء”، تبوح المرأة العجوز بسرها، موضحة أن السبب في ذلك يرجع إلى أن شقيقها الأكبر كان يقذف بها في مياه النهر حينما كانا يلعبان في الطفولة وكيف أن هذا كان يصيبها بالرعب.
ومع ذلك لا تزال تتذكر شجرة الدردار بالساحة، حيث كانت تلعب دوما مع أقرانها.
ويذكر أن والد مانولي جاء إلى القرية قادما من مدريد ليعمل بالتدريس، وظل يبحث عن زوجة لسنوات وقرية تصلح لأن يترعرع فيها أبناؤه في جو صحي ودي، وعثر على ضالته في المويدرة، حيث ولد بها جميع أبنائه وعددهم سبعة، توفي منهم اثنان.
وتقول مانولي “حينما رأت أمي قرية المويدرة صاحت، أخيرا عثرت على الجنة على الأرض، كان لدينا بستان به أشجار كمثرى، تفاح، كرز، عنب وفراولة، ومنزل فسيح مشيّد بالحجر”.
وعلى الرغم من أن مانولي عاشت عشر سنوات من حياتها في باريس، فإنها عادت في النهاية يدفعها الحنين إلى أرض صوريا وحقول قشتالة التي ألهمت شاعر صوريا العظيم ماتشادور الكثير من قصائده الرائعة.
ولا يعتبر ظهور معالم قرية المويدرة على السطح بسبب انخفاض منسوب المياه خلف بحيرة سد كويردا ديل بوثو لأقل من 21 بالمئة، حالة فريدة في إسبانيا.
فهناك في منطقة ريوخا بهضبة الميزيتا القشتالية، اضطر سكان قرية “منسية دي لا سييرا” إلى أن يهجروها قبل ستة عقود، ولكن بعد تراجع منسوب المياه التي غمرتها، بوسعهم اليوم السير بين طرقاتها بكل سهولة، ونفس الحال مع قرية بورتومارين التي تم تهجير سكانها عام 1962 بسبب بناء أحد السدود.
وصحيح أن الجفاف له الكثير من الجوانب السلبية على الزراعة والمناخ، إلا أن السكان في تلك القرى يعتبرون أنه كشف عن كنز مخفي بعد أن طفت على السطح الكثير من معالمها، إثر تراجع منسوب المياه لأقل من 37 بالمئة لأول مرة منذ عقود في تاريخ إسبانيا.
الجفاف يسرّ سكان قرى إسبانية تطفو على السطح مجددا!!
21.12.2017