يعَدُّ الطين من أقدم مواد البناء التي عرفها الإنسان منذ ما يقارب عشرة آلاف سنة، وقد اعتمد العرب هذه المادة في تشييد بيوتهم وقصورهم، حيث لا تزال تحتفظ بشواهد رائعة عدة لأولى المدن التاريخية التي بنيت كاملة بالطين، كمدينة صعدة ومراكش في المغرب وغدامس في ليبيا وحلب وأريحا، وبعض المدن السعودية كحائل والرياض، ومدينة أدرار في الجزائر.
الجزائر- للعمارة الطينية تاريخ عريق في الجزائر، فمدينة أدرار التي تقع في الجنوب اشتهرت بمبانيها الطينية القديمة إذ استخدم بُنَاتها الأولون الطين لأن هذه المادة بالإضافة إلى سهولة استخراجها، تتيح بخصائصها الفيزيائية حماية مثالية من الحرّ والقرّ على حد السواء، لكن منذ منتصف القرن الميلادي الماضي، بدأ البناء بالطين بالاضمحلال، وتم استبداله بمواد البناء الحديثة المستنزفة للطاقة والمنتجة للنفايات بشكل كبير، إذ لم تحظ مواد البناء الحديثة بالدراسة الكاملة لمعرفة ملاءمتها للأحوال البيئية للمنطقة العربية.
وقد اعتمد السكان المحليون في الجزائر على البناء بالطين، من خلال تقنيات بسيطة ومتنوعة، وخبرات ومهارات متوارثة عبر الأجيال، وكانت هذه البساطة مرتبطة بالذوق الجمالي، كما كانت مقرونة بعلم واسع بالفطرة والتجربة بهندسة البناء، فهم يعرفون تمام المعرفة أنها كانت تراعي المحددات البيئية كالمناخ ونوعية التربة والمواد المتوفرة، فالبيئة الجزائرية وخاصة في الجنوب ذات مناخ جاف محمل بالأتربة، ولذلك يجب مراعاة هذه الحقيقة عند تصميم البناء.
ويعتبر الطين مادة طبيعية متوازنة بيئيا توفر مناخا داخليا صحيّا، والبناء به يساعد على الحد من استنزاف الموارد الطبيعية، فضلا عن توفير الطاقة المستهلكة في التبريد والتدفئة، وذلك لتميّزه بالقدرة على تخزين الحرارة والبرودة، حيث تكون المباني الطينية باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، وهذا ما أثبتته العديد من الدراسات الحديثة، كما أن استخدامه يحد من التلوث وإنتاج النفايات في جميع مراحل التصنيع.
إن وفرة الطين في غالب مواقع التنفيذ تسهل عملية تحضيره التي تتم من خلال استخدام آلات وأدوات بسيطة في التشكيل، والطاقة الشمسية في التجفيف، فهي مادة رخيصة الثمن وتستطيع أن تقدم إنتاجا مباشرا وسريعا، كما يمكن بإضافة مواد رابطة وبنسب مدروسة، الوصول إلى تحقيق المتانة والعزل اللازمين في البناء.
ويتم خلط عجين التراب مع التبن ووضعه في قالب يعطيه شكل مستطيل يسهل البناء به. وبعد البناء تأتي عملية “لياسة” السقف من الأسفل بالطين، حيث يكون السقف عبارة عن خشب من جذوع وسعف النخيل وأشجار السدر.
القائمون على مشاريع البناء في أدرار أهملوا خصوصية البناء بالطين وحتى البيوت الطينية القديمة، وعوضوا الطين بالإسمنت في تشييد مشاريع سكنية في أشد المناطق حرارة، مستنزفين بذلك موارد عديدة، كما أن التفريط في خصوصيات البناء المحلية وعدم الحفاظ على النسق العمراني الذي عُرِفت به المنطقة منذ القدم أدى إلى ما يمكن دعوته بفقدان هوية حضَرية.
ومع تفاقم المشاكل البيئية وزيادة التكلفة المادية لمواد البناء الحديثة، أصبحت ضرورة البحث عن مواد طبيعية كمواد بديلة في عملية البناء تزداد يوماً بعد يوم، فاليوم أصبحت البيوت الطينية تفرض نفسها كحل محتمل لـفوضى العمران باعتبارها أكثر ملاءمة لمناخ الوطن العربي، إذ يعتبر البناء بالطين بديلا قويا لتقنيات البناء الحديثة، حيث أن اعتماد عمارة الطين يعيد العلاقة الحميمة بين الإنسان والبيئة، فإذا كان الطين لا يخلو من بعض العيوب، إلا أن أغلب سلبياته يمكن تلافيها باستخدام التقنيات الحديثة المتوفرة من دون إحداث خلل في النظام البيئي.
وفي مسعى لاستعادة البعض من خصوصيات البناء بالطين، يقوم المركز الجزائري للتراث الثقافي وبرعاية وزارة الثقافة الجزائرية، بتنظيم مهرجانات دولية لترقية العمارة الطينية، كان آخرها العام الماضي، بهدف تقديم وجه عصري لهذا الإرث وتحدي النظرة الدونية التي يعاني منها البناء بالطين.
ويسعى المركز إلى تشجيع الأبحاث والدراسات عن مادة الطين وتوثيق تقنيات وأساليب هذا النوع من البناء، وإعداد كل المواصفات الفنية الخاصة بالبناء بالطين وإبراز جوانبه البيئية والاقتصادية والاجتماعية، والاهتمام بترميم وتأهيل المباني الطينية التاريخية في هذه المنطقة، وفق معايير فنية وجمالية، لإعادة الحياة لهاته البلدات الطينية، وإظهار البناء بالطين كحرفة ومهنة.
مدينة أدرار الجزائرية شاهدة على البناء بالطين كحل بيئي !!
22.04.2016