التوك توك ظاهرة شعبية في مصر تقدم خدمة وثقافة من واقع طبقة شعبية..
القاهرة - “أشعر بإحساس غريب لا أعرف ما بي.. لم أعد أدري يميني من شمالي”، كلمات غنائية تنطلق في أحيان كثيرة من مشغل صوت دراجة بخارية، ذات ثلاث عجلات، تشاهدها في عدد كبير من شوارع مصر، تحت اسم “التوك توك” الذي ظهر في نهاية تسعينات القرن الماضي.كلمات أغاني شعبية يصاحبها إيقاع عال صاخب، تجدها في تجمعات لمركبات “التوك توك” بالعاصمة القاهرة.ففي حي إمبابة، غرب القاهرة، لا يخلو طريق أو ساحة انتظار من هذه الوسيلة التي تقدر أعدادها في مصر بنحو مليوني مركبة، حسب إحصاءات غير رسمية، وانتزعت اعترافا قانونيا بها في يوليو الماضي، بعد سنوات طويلة من التجاهل.وعادة لا يستمع راكب “التوك توك”، إلى أغنيات رصينة لكوكب الشرق أم كلثوم، مثل “أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهيّ عليك ولا أمر”، أو للمطرب العراقي كاظم الساهر، تردد “أحبيني لأسبوع لأيام لساعات فلست أنا الذي يهتم بالأبد.. أحبيني بطهري أو بأخطائي.. أحبيني أحبيني”.فغالبية ما يتم سماعه هي أغان تبدو كلماتها غريبة على من اعتاد سماع الأغاني الرصينة التي تميزت بها فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي.عم سيد، عجوز خمسيني، من سكان منطقة الشرابية (شرق القاهرة)، علّق على أغاني “التوك توك” ضاحكا: “مادام وجدت صوتا عاليا وكلاما شعبيا أحيانا ليس مفهوما، فأنت تسمع أغاني توك توك، وطبعا ليس لها مستمعون، ولن تسمع أغاني رومانسية أو أغاني قديمة فيه”.ورغم انتقاد عم سيد لهذا اللون الشعبي من الغناء، كما يعرفه سائقو “التوك توك”، إلا أنه يعترف بأنه يسمعه مضطرا بحكم تواجده في حي شعبي يستخدم الدراجة ذات الثلاث عجلات، كوسيلة مواصلات، في ظل عدم تواجد مواصلات حكومية فيه.
وفي مدينة 6 أكتوبر غرب القاهرة، ينتشر “التوك توك” الذي يستوعب أكثر من 3 ركاب بخلاف السائق، مع صخب أغانيه الشعبية.وأبدى حازم محمد، أحد سكان المدينة، تبرّمه من أغاني وسيلة المواصلات هذه؛ فهو لا يجد فيها الموسيقى الهادئة التي يفضلها، حيث قال: “قلت للسائق بحدة وهو يذيع تلك الأغاني: وطّي شوية (أخفض الصوت قليلا)، لكنه أحيانا لا يستجب وتبقى أغانيه مزعجة لي ولآخرين، ومنهم من يفتعل مشاجرة مع السائق لكي يوقف تلك المهزلة”.أغاني “التوك توك”، بحسب الناقدة الفنية ماجدة موريس، “تعبّر عن سياق اجتماعي به كثير من الانفلات، وتعتمد على تعبير فني شعبي يُبنى على أساليب غناء وموسيقى وكلمات أكثر عامية ومفردات مختلفة معبّرة عن أجزاء من أحياء مصر الشعبية”.وأضافت: “التجاوب مع أغاني التوك التوك في مناطق ورفضها في أخرى، مرتبط بوجدان شعبي يعتمد الإيقاع السريع العالي والحماسي والتفاعلي”، مستدركة: “لكن ليس معنى انتشارها تعمّقها في وجدان المصريين خاصة وأن هناك شرائح كاملة لا تسمعها ولا تغنيها وإن سمعتها تكون مضطرة”.ورغم التذمر من أغاني “التوك توك” إلا أن الحكم التي تكتب على الواجهة الخلفية للمركبة تلقى تجاوبا مختلفا، فـ”التوك توك” يكرر ما فعلته حافلات نقل الركاب قبل ظهوره، إذ كانت تحمل عبارات تعبر عن الحكمة والموعظة.
أحد مالكي “التوك توك”، وهو شاب ثلاثيني، رفض ذكر اسمه، كان يقف بمركبته في مدخل كوبري أحمد عرابي بالمهندسين (غرب القاهرة) ينتظر ركابه، وقال إن الحكم التي تظهر في الواجهة الخلفية لمركبته: “ما تزال موجودة وتعتبر نوعا من التزيين (التجميل)، بكلمات مشهورة تبعد الحسد، أو تلقى قبول المواطنين وتعاطفهم”.وتتنوع ملصقات “التوك توك”، خاصة التي تحمل حكمة والموعظة، وتنتشر أيضا على الواجهة الخلفية لهذه المركبات صور لفنانين مصريين وعبارات شهيرة لهم منها مقولة الممثل المصري الشاب محمد رمضان، في أحد أفلامه: “أصل الطيب في الزمن ده (هذا) مالهوش (ليس له) مكان”، في إشارة إلى الظلم الذي يتعرض له كثير من الصالحين على يد الأشرار.وأحيانا يحاول سائقو “التوك توك” بتلك الحكم أن يعبّروا عن معاناتهم من شراء هذه المركبة للعمل بها والمساعدة في ظروف الحياة، فيكتبون على الواجهة الخلفية للتوك توك عبارات أشبه بالحكم مثل: “الرجولة مواقف والندالة دروس”، “لما كنت عصفور أكلوني ولما بقيت أسد صاحبوني”، “لو الرجولة بفلوس كان الندل اشتراها”.
وحتى أيام قليلة ماضية، كان هاشتاغ “أكتب_حكمة_من_ظهر_توك توك”، يلقى تفاعلا كبيرا من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة “تويتر”.وفي تفسير لهذا التجاوب، قالت عزة كريّم، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية (حكومي)، إن مطالبات بعض الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي بنقل حكم يحملها “التوك توك” “تحمل ظاهرة سلبية وليست إيجابية لأنها ترسيخ لعشوائية التوك توك وثقافته التي حملها من الطبقة الشعبية وربما تؤثر سلبا على المجتمع في السلوكيات والأفكار”.عشوائية “التوك توك”، على مستوى قيادته وثقافته الشعبية، يمكن رؤيتها في أغلب المناطق الشعبية مثل بولاق (غرب القاهرة)، إذ يسير سائقو التوك توك، بطريقة ملتوية يمينا ويسارا من أجل سرعة المرور وإيصال الركاب وتخطي السيارات الأخرى.
ولم يتوقف انتشار “التوك توك” عند المناطق الشعبية، بل امتد إلى مناطق راقية لاسيما في الشوارع الرئيسية فيها، مثل بعض شوارع حي المعادي، جنوب القاهرة، وأحياء ذات بعد اجتماعي متميز مثل حدائق الأهرام والمهندسين (غرب القاهرة)، ومدينة نصر (شرق القاهرة).وتحذر عزة كريم من تأثير تواجد التوك توك في المناطق الراقية والأحياء ذات البعد الاجتماعي المتميز قائلة: “تُعرف المعادي (جنوب القاهرة) بأنها حيّ راقٍ ولكن يظهر في بعض شوارعها التوك توك ويتضرر المجتمع من أغانيه الشعبية المسفة التي يذيعها أو القيادة العشوائية التي لا تلتزم بقواعد”.وقال تيم أحمد، أحد سكان حيّ حدائق الأهرام، إن “عدم وجود مواصلات متوفرة للتنقل داخل الحيّ مثل سببا لقبول وجود التوك توك رغم التضرر من سلوكيات سائقيه الشعبية، سواء في نوعية الأغاني التي يبثها أو السلوكيات الشعبية المرفوضة التي تميّز أغلب سائقيه”، مستبعدا في الوقت ذاته إمكانية تأثير ثقافة وأغاني الطبقة الشعبية التي يمثلها “التوك توك” في ثقافة تلك الأحياء المتميّزة.ورأي أحمد، بحسب أستاذ علم الاجتماع عزة كريم، هو تأكيد على أن الثقافة الشعبية التي يحملها “التوك توك” “لن تستطيع أن تجد حيّزا لها في طبقات أخرى خاصة مع حمل هذه الثقافة بعدا مسفا”، مشيرة إلى أن “التوك توك ظاهرة شعبية تقدم خدمة وثقافة من واقع طبقة شعبية نشأت بينها وتعبر عنها في أغانيها وثقافتها”.
التوك توك" منقذ الأحياء الشعبية وملوث سمع المصريين.. !!
07.11.2014