أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1 2 3 41135
"المسحراتي".. حامل الطبلة ينبه الصائمين ويصارع التكنولوجيا!!
09.07.2014

ـ 1197 رمضان هي عمر تلك المهنة حتى يومنا هذا، شهدت مولدها ونموها.. فتوتها وأفولها.. حتى اقترابها من الاندثار.
بحسب الرواية التاريخية، فوالي مصر، عتبة بن إسحاق، هو أول من طاف شوارع القاهرة ليلا في رمضان لإيقاظ أهلها إلى تناول طعام السحور في العام 238هجرية (853 ميلادية)، ليصير هو “المسحراتي” الأول.
“عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة”، كان نداؤه .. ومرت السنون ليتطور النداء ويصير أشهره “اصحى يا نايم .. وحد الدايم” وتضاف أدوات الطبل والمزمار إلى صوته الجهير للمساعدة في تنبيه النائمين ليستعدوا للصيام .. بالماء والطعام.
وعلى مر العصور ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية بدأ المسلمون يتفننون في أساليب التسحير وظهرت وظيفة “المسحراتي” في الدولة الإسلامية في العصر العباسي، وفى العصر الفاطمي أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي الناس أن يناموا مبكرين بعد صلاة التراويح وكان الجنود يمرون على المنازل ويدقون أبوابها ليوقظوا المسلمين للسحور، وبعد ذلك عيّن أولو الأمر رجلا للقيام بمهمة المسحراتي والذي كانت مهمته المنادة “يا أهل الله قوموا تسحروا”، وكان يدق أبواب المنازل بعصا يحملها.
وهكذا انتشرت المهنة وشهدت أوجها، وفي عديد أشهر رمضان مضت، لم يخل شارع عربي من “مسحراتي” يقرع طبلته قبل الفجر أو ينفخ مزماره، رافعا عقيرته بالنداء، قبل أن يفعل الزمان مفعوله، وتشيخ مهنة المسحراتي وتذوي مع مولد الأجهزة التكنولوجية الحديثة ومنبهاتها، ويختفي المسحراتي بشكل شبه كامل من دول الخليج العربي شرقا، بينما في شمال أفريقيا العربي غربا، يندر ظهور حامل الطبلة والمزمار في شوارع الأحياء الراقية، فيما لا يزال يكافح للبقاء في الأزقة الشعبية.
في مصر كادت عبارة “اصحي (استيقظ) يانايم (نائم) اصحي .. وحد الدايم (الله الباقي) ، رمضان كريم ” تختفي من شوارع وأزقة العاصمة والمحافظات، مع مهنة المسحراتي “التراثية” والسبب كما يرى مصريون كثر، يرجع الي وجود وسائل تنبيه كثيرة متوفرة هذه الأيام سواء في ساعات اليد أو الهواتف الجوالة التي تعطي فرصة لضبط موعد استيقاظ الأسرة لموعد السحور وبعضها قد يكون مصحوبا بنغمة تحمل عبارات المسحراتي.
بجانب وسائل التنبية التي حلت محل المسحراتي فهناك وسائل تسلية تستمر حتي وقت السحور وبعده في الاعلام المرئي لاسيما مع كثرة المسلسلات الرمضانية والبرامج الكوميدية التي عادت ما تأخذ مشاهدة عالية من جانب الأسر وتراها فرصة تستمر معها مستيقظة حتي تناول السحور وأداء صلاة الفجر.
وحتي في المناطق التي ما زالت بها المهنة حية، فقد تغيرت ملامحها، حيث بات الأطفال الملتفون حول المسحراتي والذين ينتظرونه في الشرفات يلقون إليه بالقطع المعدنية ليطالبونه بالنداء على أسمائهم.
ورغبة في إحياء المهنة الإسلامية المندثرة في ذاكرة الناس قدم الممثل المصري، صلاح عبدالله، هذا العام مسلسل رسوم متحركة بتقنية ثلاثية الأبعاد (3D) يحمل نفس الاسم “المسحراتي”.
أما الأردنيون فألفوا منذ عشرات السنين نداء “إصح يا نايم وحّد الدايم” في ليالي شهر رمضان الكريم.
ويرفض الستيني أبو رائد الزريقات استبدال “المسحراتي” بوسائل التكنولوجيا الحديثة، ممسكاً على ما اعتاد وعائلته الاستيقاظ عليه في رمضان، طوال سنوات خلت، في استحضار لحياة الآباء والأجداد.
وعلى الطقوس الشعبية البسيطة، من دق الطبل أو النفخ في المزمار تستيقظ زوجته، أم رائد رغم احتفاظها بالهاتف، وتبدأ بتحضير وجبة السحور لها ولعائلتها.
وهذا المسحراتي يوسف عبد الحافظ الطهراوي يكمل مشوار أبيه وأجداده في إيقاظ السكان في منطقة عرجان، إحدى ضواحي العاصمة عمان، مرددا بعض الأناشيد والتهاليل الدينية على دق الطبل رغم عمله في ساعات النهار سباكاً.
وفي إحدى جولاته المسائية؛ برفقة الأناضول، فتح أبواب الذاكرة ليحدثنا عن مهنته التي لا يتقاضى عليها أجرا من الدولة، لكنه ينتهز آخر ليلة في شهر رمضان؛ ليجول على المنازل التي كان يوقظ ساكنيها، مهنئا بحلول عيد الفطر؛ فتنهال عليه العطايا والهدايا، في جو يغلب عليه طابع الألفة والمحبة.
يقرع المسحراتي طبلته الأثيرة إلى نفسه، بصحبة أطفال الحي الذين يرافقونه كل ليلة؛ ليحظون بقرع الطبل بأناملهم الصغيرة مرة أو مرتين.
ويقول الطهراوي إنه يسعى أيضا من وراء جولاته المنتظمة بين المنازل إلى حماية المهنة الإسلامية من الإندثار، وحض الناس على التمسك بالقيم المجتمعية القديمة والتي ارتبطت بالشهر الفضيل.
الطهراوي في العقد الرابع من عمره، لكنه رافق والده منذ نعومة أظفاره، يقول: “علمني والدي المهنة وأنا طفل، وها انا أصطحب ابني أسامة (5 سنوات) ليتعلم المهنة ويكمل المشوار”.
أسامة ترك فراشه بارداً، وراح يرقب فعل أبيه جيداً في الحارات، حاملاً عصا صغيره بيده اليمنى، لعمل “بروفات مسحراتي” صغيرة قبل أن ينضج ليواصل معركة آبائه وأجداده المتمسكين بما تريد أن تسلبه منهم التكنولوجيا.
وقرب ضفاف المحيط الأطلسي، مع صوت أمواجه الخافت ليلا يضرب الشاطئ، وعلى ضوء مصابيح الإنارة الخافتة، يحثُ هو الخطو بين أزقة المدينة، كاسرا رتابة سُكون ليلها، ومُتنقلا بين أبواب منازلها، ليوقظ بطرق طبله الذي تضج به كل جنبات الزقاق، الصائمين لتناول وجبة السحور.
فعلى وقع إيقاعاته، وصدى نداءات “المسحراتي” تبدأ نوافذ الحي تباعا في إيقاد أنوارها، استعدادا لاستقبال فجر يوم صوم جديد.
ساعتان قُبيل موعد آذان الفجر، ينطلق “عمر الوراقي” (70 سنة) بحماسة بالغة كدأبه منذ أربعة عقود أو يزيد، متجولا بين أحياء مدينة الرباط الشعبية، مرفوقا بطبله الذي صاحبه لسنوات في أداء “واجب إيقاظ أهل الحي لتناول السحور وإقامة صلاة الفجر” على حد قوله.
“منذ ما يقارب أربعة عقود وأنا أزاول هذه الحرفة، فمتى حل شهر الصيام، حملت طبلي جائلا بين الأحياء التي ألفني أهلها، واعتادوا الاستيقاظ لتناول السحور على وقع قرعاته” يضيف “عمر” في حديثه للأناضول ،وقد اعتمر طاقية صوفية وارتدى جلابية بيضاء، والتقف بكلتا يديه عصوان، كلما دق بهما طبله الجلدي، ردد عبارات الصلاة والسلام على الرسول، داعيا النيام إلى الاستيقاظ، فيما اختار انتعال حذاء رياضي حديث، يساعده على ما يروي في “قطع مسافات طويلة ” في ظرف ساعتين، قبل ظهور تباشير الفجر الأولى واقتراب موعد عودته لمسكنه.
هذه المهنة التي يقول “عمر” للأناضول إنه بدأها هاويا في أيام الصبا والشباب، لينتهي مولعا بها، وقد زحفت به الأيام على أبواب الشيخوخة، لا يتخذها كحرفة يكسب منها قوت يومه بل هي في عُرفه “طقس رمضاني” ورثه عن أجداده، كمتعهد بإيقاظ جيران حيه والأحياء المجاورة عند السحور، فيخرج إلى الأزقة المظلمة وقد خلت من كل حركة، سواء صادفت ليالي رمضان أماسي الشتاء القارسة، أو أسحار الصيف الدافئة.
بعض المدن المغربية ماتزال أحيائها العتيقة تصر على استعادة هذه العادة القديمة مع حلول كل شهر رمضان، ولا تستقيم طقوس هذا الشهر لدى ساكنيها دون صوت الطبل أو نفير المزمار النحاسي الذي يكسر دويُه سكون الليل موذنا بقرب حلول الفجر، بل إن “المسحراتي ” ارتبط في الذاكرة الشعبية لدى المغاربة بهالة قداسة استمدها من “بركة السحور” الدينية، فـ”الطبال” أو “النفار” يُؤدي في نظرهم “دورا جليلا” في إيقاظ الغافين في أفرشتهم لتناول هذه “الوجبة المباركة” والتحضير لأداء صلاة الفجر.
إلا أن هذا التقليد القديم يكاد يختفي في الأحياء حديثة العهد والراقية، فسكانها غالبا ما يكتفون بضبط منبهات الهواتف أو الساعات المنزلية للاستقاظ للسحور، دون الحاجة إلى “طبال” أو “نفار” لتنبيههم، حيث يواصل البعض منهم السهر سواء متحلقا حول شاشة التلفاز أو في مقاهي الجوار، إلى حين حلول موعد السحور.
ولع عمر بهذه المهنة تطوعي على حد قوله، ولا يبتغي من وراءه أجرا ولا شكورا، إلا أن العادة قضت بأن يجُول مسحراتيُ كل حي على منازله في ليلة النصف من رمضان أو صبيحة عيد الفطر لجمع عطايا أهله من هدايا أو حلويات أو مال، عرفانا منهم للخدمة التي قدمها للحي طوال أيام شهر رمضان، فيبادلونه التبريكات والتهاني بقدوم العيد، بينما يلهج لسانه بالدعوات لهم بموفور الصحة والرزق.
“اصحوا يا صايمين .. افردوا المناديل .. ابكوا على رمضان .. الوداع الوداع .. يا شهر الصيام” .. بصوت مجروح ونبرات حزينة، هكذا يغني المسحراتي في ليالي رمضان الأخيرة مودعا أيام الرحمة والمغفرة والعتق من النار، فيما قد يظن بعض السامعين أنه ينعى مهنته الآيلة للزوال، ويتخيل الشوارع التي ستخلو يوما من صوته وقرعاته وأطفال لاهين ملتفين حول ندائه، لتبتعد المسافات أكثر في زمن سيكتفي كلٌ بمنبه جواله، ولن ينتظر مرور “المسحراتي”.

1