“لا شيء يهمّني في هذا العالم سوى تشييد هذا المسجد”..هكذا عبّر الشيخ “أحمدو بامبا” المعروف باسم “سيرين توبا” (مؤسس الطريقة المريدية وهي توجه صوفي، وتعتبر من أقوى الجماعات الدينية بالسنغال وغرب أفريقيا) عن أمله برؤية حلمه يتحوّل إلى حقيقة ملموسة..
كانت تلك عبارته التي تناقلتها الأجيال من بعده.. قالها في العام 1926، بيد أنّ الموت لم يمهله لمواكبة أعمال البناء حتّى، فلقد توفي سنة بعدها (1927)، فيما لم تنطلق أشغال تشييد المسجد سوى سنة 1932، ليحمل اسم الرجل الذي لم يكن يمتلك من أحلام في الحياة سوى رؤية تلك الصومعة شامخة في السماء، وليتحوّل المسجد إلى إرث ذي خصوصية لدى خلفه ومريديه ممّن مضوا على طريقته.يقع المسجد في مدينة “توبا” على بعد 194 ميلا شرقي العاصمة داكار. يطل على زوّاره بمآذنه السبع الشامخة، وبملامح عربية خالصة، تشوبها مسحة بيزنطية في رحاب أروقته الواسعة، حيث يزاول شيوخ المريدية أنشطتهم، في هذه المدينة التي تعد العاصمة الروحية لهذه الطريقة الصوفية.مؤرّخ محلّي من مدينة توبا يدعى “سيرين مصطفى ديوب”، وهو أيضا من أفراد عائلة “بوسو” المكلّفة بإدارة شؤون مسجد “توبا” قال، في تصريح للأناضول، “أوّل ما يتوجّب على الخلفاء القيام به هو الاعتناء بالمسجد، لأنّ “بامبا” كان يكنّ له تقديرا لا يوصف”.
مسجد “توبا” يعتبر اليوم من جواهر السنغال، وحاضنة روحية للطريقة المريدية المنبثقة عن الصوفية. صنّفه موقع “لنترنوت. كوم” من بين أجمل 25 مسجدا في العالم، لما تميّزت به هندسته المعمارية من جمال مستوحى من مزيج من المعمار العربي والبيزنطي.
يمتدّ المسجد على مساحة 8 آلاف و790 مترا مربعا، تزيّن إطلالته 7 مآذن أو منارات، 4 منها تبلغ 66 مترا من الارتفاع، واثنتان يناهز ارتفاعهما الـ 60 مترا (بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليهما)، في حين تبلغ الأخيرة 86.80 مترا من الارتفاع. وتزيد طاقة استيعابه على 6 آلاف شخص.
من الخارج، تبدو ملامح المسجد وفية للطابع المعماري العربي، غير أنّه، وبمجرّد تجاوز عتبته نحو الأروقة الداخلية الفسيحة، يتراءى للمرء الطابع البيزنطي المرتسم في كلّ ركن من أركانه.. فلقد ارتكزت عملية تشييد الجدران من الداخل (وتجديدها) على الرخام الأزرق والمرمر.. ومن بين أرجائه، تتعالى أصوات المقرئين تتلو القرآن لـ 28 مرة في اليوم. وفي ساحته الكبيرة، تنتصب أضرحة الشيخ “بامبا” وأبنائه، بالاضافة إلى أضرحة أخرى لمختلف الخلفاء الذين حذوا حذوه.عندما أعرب “بامبا” عن آماله ببناء هذا المسجد، كان بحوزته 10 آلاف دولار قام بتجميعها من مريديه (من أتباع الطريقة المريدية).. غير أنّ حجر الأساس الأول لبناء المسجد لم يوضع إلا سنة 1932 عن طريق ابنه البكر وأول خليفة للطريقة المريدية، الشيخ “محمد مصطفى”. ولم تشهد أعمال البناء توقّفا منذ تاريخ انطلاقها، إلا مع “اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1941، بسبب توقّف إمدادات المعدّات”، بحسب “ديوب”. وحين توفي الشيخ “محمد مصطفى” في 13 يوليو 1945، حمل أخاه وخليفته الشيخ “محمد فاضل” (عرف لاحقا باسم سيرين فالو) المشعل، وتعهّد بمهمّة الاشراف على أعمال بناء المسجد، ليتم الفراغ منها سنة 1963. الكلفة الجملية للمسجد قدّرت في حينها بـ مليون و340 ألف دولار، وتطلّب انجازها حوالي مليون و800 ألف ساعة عمل.
تمّ افتتاح المسجد الكبير بـ “توبا” يوم الجمعة 07 يونيو/ حزيران 1963 من قبل الخليفة الشيخ “محمد فاضل”، بحضور الرئيس السنغالي حينذاك “ليوبولد سيدار سانغور”. تقارب لقي استغرابا في حينه من طرف العديد من المراقبين، بما أنّ “سيرين فالو كان من شيوخ المريدية، وسانغور كان كاثوليكيا. اختلاف عقائدي لم يمنع ترعرع صداقة قوية بين الرجلين”، يقول ديوب، بل لقد “أظهر الرئيس السنغالي السابق حرصا على إنهاء بناء المسجد، وهو ما دفع بالعديد من متّبعي الطريقة المريدية في السنغال إلى دعمه سياسيا حينذاك”.وبعد وفاة الشيخ “محمد فاضل” في 6 أغسطس 1968، سعى خلفاء المريدية المتعاقبين إلى توسيع المسجد جوهرة المريدية.“سيرين فالو بوسو أسان” من مركز بحوث “غيدي بوسو” بداكار قال للأناضول بهذا الخصوص “على سبيل المثال، قام الخليفة الثالث سيرين عبد الأحد بتوشيح الأروقة الداخلية للمسجد بطابع مغربي جميل، وزاد من مساحته المغطّاة”.أسان” أضاف قائلا “أما الخليفة الخامس سيرين ساليو، فقد قام بتجديد وتحديث المسجد بشكل كامل بين سنتي 1995 و1998. وقد كلفت هذه العملية ما يناهز الـ 6 ملايين دولار”.وعلّق أحد أحفاد “سيرين توبا” ويدعى “سيرين أبو مباكي” على تواصل الأشغال في المسجد على مرّ السنين قائلا للأناضول “المسجد الكبير بتوبا شبيه إلى حد كبير بحظيرة أشغال لا تعرف التوقّف، ذلك أنه على كلّ خليفة رعايته بطريقته.. إنه إرث الشيخ أحمدو بامبا، ولذلك، يوجد دائما ما ينبغي القيام به، أو إعادة فعله بطريقة أكثر مثالية”.
الخليفة الحالي للمريدية في السنغال، الشيخ “سيدي مختار” أطلق أشغالا تقدّر تكلفتها الجملية بحوالي 10 مليون دولار، انطلقت منذ مارس/ آذار 2013، وترمي إلى توسيع المسجد، وتغيير الرخام، وبناء منارتين جديدتين، بطريقة تجعل منه مسجدا “شبيها بل متطابقا مع جوهرة المدينة المنورة (المسجد النبوي بالمملكة العربية السعودية)، وترصيع بعض زوايا المنارات بالذهب.. تلك هي أمنية الخليفة (الشيخ “سيدي مختار”)، بحسب ما صرّح به المهندس المعماري المكلّف بالأشغال “ميساء توريه” في مارس/ آذار 2013، عقب إطلاق أعمال تجديد المسجد الكبير بتوبا.ولتمويل هذا المشروع الضخم، دعا الشيخ “سيدي مختار” متّبعي الطريقة المريدية إلى المساهمة بمبلغ رمزي لا يتجاوز الدولار الواحد.وتعهد إدارة المسجد، في الوقت الراهن، إلى مجموعة من المريدين الأوفياء يطلقون عليهم اسم “ظاهرة مقدّمة الخدمة”. وتضطلع هذه المجموعة بمهام تنظيم الصفوف لأداء الصلاة، وتنظيف المسجد، وتوفير الماء للمريدين، إلى جانب الإشراف على المعدات الصوتية الموجودة فيه وحراسة المسجد.ويقوم الخليفة بتعيين إمام المسجد بنفسه. “سيرين فالو” كان أول شيخ يتم تعيينه لهذا “المنصب”. أما اليوم، فيقوم بإمامة المصلين كل يوم جمعة الإمام “سيرين مودو مامون بوسو”، والذي يعوض ثلاثة أئمة آخرين يتناوبون يوميا على إمامة المصلين لأداء الفريضة.ويقع المسجد الكبير بـ “توبا” في منطقة “ديوربيل” وسط السنغال. وقد تأسست مدينة توبا، الواقعة على بعد 194 كم من داكار، على يد الشيخ أحمدو بامبا، مؤسّس الطريقة المريدية (والتي تستقطب 31? من السكان في السنغال)، وهي منهج مشتق عن القادرية، والمريدية تعود إلى مصطلح معروف وشائع في الفكر الصوفي ألا وهو “الإرادة”، وتعني “الطموح والسعي إلى الاعتراف الإلهي”، بحسب المؤرخ المحلّي “سيرين
مسجد توبا.. قصّة الحاضنة الروحية لـ”المريدية” في السنغال!!
10.06.2014