**تواجه صناعة الملح في العراق عدة تحديات تتهددها بالاندثار من بينها الإهمال وعدم وجود خطط حكومية لدعمها والمحافظة عليها، وخاصة في ملاحات محافظة ديالى شرقي البلاد، فضلا عن إغراق الأسواق المحلية بالبضائع المستوردة.
ديالى (العراق) - بالرغم من قدم صناعة الملح في العراق والتي تدخل في أغلب الأطعمة التي يتناولها الناس بحيث أطلقوا عليها اسم “الذهب الأبيض” إلا أنها مهددة بالاندثار، بسبب الإهمال وعدم وجود خطط حكومية لدعمها والمحافظة عليها.
وشهد القطاع الصناعي في العراق تراجعا كبيرا بعد الاحتلال الأميركي العام 2003 بسبب تدهور الوضع الأمني وانهيار منظومة الكهرباء وتفشي الفساد المالي والإداري، وفتح الحدود أمام البضائع الأجنبية دون ضوابط أو جمارك، ما أدى إلى إغلاق الآلاف من المصانع الحكومية والخاصة لعدم وجود خطط اقتصادية لإعادة تشغيل هذه المصانع.
وفي أطراف بلدة بني سعد قرب الحدود الإدارية الفاصلة بين العاصمة بغداد ومحافظة ديالى شرقي البلاد يقف أركان عبدالأمير أمام آلة متوسطة الحجم لصناعة ملح الطعام متوقفة منذ أشهر، ويشير بيده اليمنى إلى آلتين متوقعا توقفهما في وقت قريب بسبب إغراق الأسواق بالبضائع المستوردة وعدم وجود أي دعم حكومي لمهنة توارثتها أسرته منذ قرابة 40 سنة.
ووفقا لوكالة الأنباء الصينية (شينخوا)، قال عبدالأمير (30 عاما) إن “صناعة ملح الطعام من الصناعات الموغلة في التاريخ ولا يوجد سقف زمني لتحديد وجودها في ديالى، وقد تحولت إلى مهنة لدى العديد من العوائل من خلال استخدام أدوات بسيطة ثم تطورت مع الوقت لاستخدام بعض الآلات لإعداد الملح ومن ثم وضعه في أكياس قبل إرساله إلى الأسواق”.
ولفت عبدالأمير إلى أن مستوى التسويق لإنتاجه في عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أكبر بكثير منه بعد الاحتلال الأميركي العام 2003، حيث بدأت الأحوال بالتدهور مع تدفق المستورد وبكميات كبيرة جدا.
وأضاف “إن صناعة الذهب الأبيض في طريقها للاندثار، إذا لم تتخذ إجراءات من قبل الحكومة لدعم هذا القطاع خاصة وأن هناك مناطق كثيرة يتوفر فيها الملح الخام ليس في ديالى فحسب بل في محافظات أخرى ومنها البصرة”.
وكانت قرية جمجمال الواقعة بمحافظة السليمانية، ويطلق عليها السكان اسم “قرية الملح”، نجت من التبعات الاقتصادية لفايروس كورونا المستجد.
وتنتشر بالقرب من البلدة الواقعة في كردستان العراق والتي يستخدم سكانها نفس الأساليب التي كان يستخدمها الأسلاف منذ أكثر من 200 عام، أحواض تبخير الملح التي يملؤها القرويون بالمياه المالحة من نبع قريب.
وفي أشهر الصيف الساخنة، يتبخر الماء ويجمع القرويون الملح ويبيعونه لاحقا لرجال الأعمال المحليين مقابل ما بين 0.21 و0.27 دولار للكيلو، على حسب جودة المنتج، ويجمعون في كل عام حوالي 400 طن من الملح.
ويقول القرويون إن محصول الملح يحميهم من الأزمة الاقتصادية الحالية بمنطقة كردستان العراق، والتي تفاقمت بفعل تظافر عاملي تراجع أسعار النفط وأزمة كورونا.
وتساءل عبدالأمير “كيف نستورد الملح؟ ونحن لدينا كل هذه المناطق التي يمكن أن تنتج آلاف الأطنان سنويا”.
أما أم عروبة وهي امرأة مسنة تستذكر عملها في تجميع الملح من خلال مناطق تغمرها المياه في أطراف بني سعد ثم تجف ليجري بعدها تجميعه ويصبح أشبه بالتلال التي ترتفع عن الأرض لمتر أو أكثر ثم ينقل من خلال مركبات خشبية تجرها الخيول إلى معامل صناعة الملح”.
وأشارت السيدة التي تجاوزت عقدها السادس إلى أن الملح يتجمع على شكل أكوام مشابهة للتلال، وكانت تبيع الكوم الواحد ما بين (5 و8 دنانير) في ذلك الوقت وهو مبلغ جيد كونها كانت تصنع أكثر من كومة واحدة.
وأفادت بأن الملح العراقي يمتاز بجودته وكان يصدر إلى خارج العراق في تلك الفترة.
وقال نجم السعدي مدير ناحية (أعلى مسؤول إداري) بني سعد (25 كم جنوب غرب بعقوبة مركز محافظة ديالى) إن “صناعة الملح في بني سعد بشكل خاص برزت قبل أكثر من 100 سنة وتعد هذه المنطقة مركز صناعة الملح في ديالى كلها لامتلاكها لخمسة مصانع لإنتاج ملح الطعام”.
صناعة الملح لا تزال تقاوم كل الضغوط والمؤثرات ومنها الاستيراد والإهمال، رغم أنها لا تزال تتم وفق الأساليب التقليدية
وأضاف السعدي أن “الملح المنتج رغم أنه يتم من خلال أدوات بسيطة لكن جودته أفضل من المستورد، لكن للأسف حتى هذا المنتج لم يسلم من فوضى الاستيراد لتغرق الأسواق بأنواع كثيرة ما يدفع المصانع العراقية إلى الإغلاق الواحد تلو الآخر”.
وأكد أن معامل بني سعد قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة ملح الطعام خلال سنة من الآن في حال تم وقف الاستيراد لهذه المادة، متابعا “إن هذا القطاع الذي يراه البعض بسيطا، إلا أنه يوفر فرص عمل لمئات بل للآلاف من العمال ويخلق انتعاشا اقتصاديا خاصة في ظل وجود مناطق جرى إهمالها في السنوات الماضية تمثل مصدر الملح”.
وأشار الخبير الاقتصادي صلاح العزاوي إلى أن “مصانع ديالى كانت تنتج في عقد الثمانينات من القرن الماضي من (30 – 40) مادة صناعية وغذائية بينها ملح الطعام بأربعة أنواع وهي تسد جزءا كبيرا من احتياجات الأسواق المحلية خاصة العاصمة بغداد”.
وتابع أن “بني سعد تعد أكبر منطقة صناعية في ديالى وتضم أكثر من 400 معمل ومصنع وورشة، لكن 96 في المئة منها متوقف الآن”.
وأوضح أن صناعة الملح ربما هي الوحيدة التي لا تزال تقاوم كل الضغوط والمؤثرات ومنها الاستيراد والإهمال، رغم أنها ما تزال تتم وفق الأساليب التقليدية، فضلا عن تواضع عمليات التسويق، داعيا أصحاب المعامل إلى تدارك هذا الخطأ واعتماد أساليب حديثة وطرق متنوعة لتسويقه.
أما خليل العبيدي، وهو تاجر مواد غذائية ، فيرى أن “هناك خطأ كبيرا ترتكبه الصناعات العراقية المعنية بالأغذية بكل عناوينها وهي عدم إدراكها لأهمية ملف التسويق والدعاية ودفع الزبائن للإقبال على بضائعهم”.
ولفت إلى أن أغلب الدول تنفق أموالا طائلة على ملصقات الماركات الغذائية من ناحية النوعية، مبينا أن النوع المحلي من الملح أكثر جودة من المستورد.
وأضاف أن “الصناعات العراقية ومنها ملح الطعام يمكن إحياؤها بشكل كبير لو توفرت الإرادة من ناحية خلق معادلة بين الاستيراد والمنتج الوطني مع فرض الضرائب لكي يكون التنافس عادلا من حيث السعر لأنه العامل الأهم في الأسواق”.
ويؤكد الجميع على ضرورة تدخل الحكومة لإنقاذ الصناعة
الملح العراقي قيمة اقتصادية مهدورة!!
14.09.2020