أحدث الأخبار
الخميس 28 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1160 161 162 163 164 165 1661135
مبيض النحاس .. مهنة تخبو في لبنان!!
19.09.2020

مرجعيون، لبنان - مع ساعات الصباح الأولى يبدأ السبعيني اللبناني أحمد السبليني، في التجول بقرى ريفية نائية بحثا عن أصحاب الأواني النحاسية العتيقة التي باتت بحاجة للتبييض.
ورغم تقدم سنه والتراجع الكبير في عمله، لم ييأس السبليني، من ممارسة مهنة تببيض الأواني النحاسية، إذ يجول في القرى مرددا بصوت شاحب "مبيض ... مبيض" لاستقطاب الزبائن، الذين انخفضت أعدادهم بنسبة كبيرة.
وفي أثناء تجوله يختار السبليني موقعا في الساحات العامة في القرى ويفترش الأرض لينشر من حوله أداوته البدائية المعبأة داخل كيس من الخيش كمقدمة للمباشرة بعمله، الذي يستمر ساعات معدودات بسبب ندرة الزبائن.
ويسخر السبليني من الأواني المنزلية الحديثة، إذ يرى أنها تعتمد على الزخرفة بعيدا عن الجودة المطلوبة.
ويقول الرجل المسن، الذي يتمسك بحرفة ورثها عن أبيه، لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن "الأواني النحاسية القديمة قاسية وقوية تقاوم بشدة الحرارة مهما ارتفعت، وتصمد في كل الظروف المناخية، ويمكن استعمالها عشرات السنوات لتنتقل من جيل إلى جيل".
ولا تفارق البسمة محيا السبليني، ويفخر بإعادة القدر القديم، الذي لحقه السواد والصدأ إلى لون نقي ولامع.
وخلال عمل السبليني يتصاعد الدخان من حوله جراء حرق المواد المستعملة لإزالة الصدأ عن الأواني، والتي تقتصر على النشادر والملح والقصدير.
ومن ثم يستعين بملقط حديدي لإلتقاط طرف الوعاء حتى يتمكن من تحريكه فوق موقد تستعر فيه النار بواسطة منفخ يدوي.
ويتفحص السبليني الوعاء ويعالجه بمادة النشادر لتأتي بعدها مرحلة التبييض من خلال فركه بقطعة كبيرة من القطن، ثم يغسله بالماء قبل وضعه تحت أشعة الشمس ليجف فيغدو لامعا.
ويشير السبليني إلى أن أكثر الأواني النحاسية التي تحتاج للتبييض، هي تلك المستعملة في طبخ اللحوم والأرز والحليب والهريسة، وأكبرها حجما يعرف بـ"الدست" ويتسع لحوالي 50 لترا من الحليب.
واشتهرت مهنة مبيض النحاس في جنوب لبنان مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان أكثر من مارسوها من بلدة "جويا" في غرب جنوب لبنان، بحسب السبعيني أحمد أيوب.
ويبدي أيوب، الذي تخلى عن عمله في التبييض منذ عدة أعوام، ل(شينخوا) أسفه "لانخفاض عدد العاملين في هذه المهنة، إذ باتوا أقل من أصابع اليد".
ويخشى أيوب "أن تندثر مهنة مبيض النحاس وينطفئ نورها قريبا".
ويشير إلى "أن الجهات المعنية في لبنان غائبة عن حماية مثل هذه المهن الحرفية القديمة".
وتراجع استخدام الأواني النحاسية أم الأواني الحديثة المصنعة من معادن أخرى.
وتقول اللبنانية فاطمة فحص، وهي ربة منزل "إن أواني الستانليس ستيل جذبت السيدة اللبنانية لأنها أرخص ثمنا من الأواني النحاسية وأكثر سهولة في التنظيف".
وتضيف فحص أن الكثير من ربات المنازل باتوا يستعملون النحاسيات القديمة كأدوات للزينة أو "ديكور" للمنزل، في حين تحتفظ بعض العائلات بالأدوات النحاسية كإرث عائلي أو كذكرى ثمينة من أمهاتهن وجداتهن.
لذلك لم يعد العثور على زبون أمرا سهلا للعاملين القلائل في هذه المهنة.
ويقول اللبناني طلال بزي، والذي يعمل في المهنة منذ أكثر من 40 عاما، ل(شينخوا) "كنا في الماضي نعمل في البلدة الواحدة لعدة أشهر لكثرة الأواني النحاسية، أما اليوم فنفتش عن الزبون بين الأزقة ونسحق أسعارنا علنا نحصل على زبون واحد".
وأضاف "يقتصر رزقنا في هذه الفترة على القرى النائية، والتي لا تزال تعتمد بشكل أساسي على رعي الماشية، ذلك أن الرعاة يستعملون الدست النحاسي لغلي الحليب ولا تزال لديهم أعداد مقبولة من الأواني النحاسية التي تحتاج للتبييض دوريا".
ويخضع بدل تبييض قطعة النحاس لحجمها وحالتها، بحسب بزي.
ويشير إلى أن الأسعار في هذه الفترة تغيرت كثيرا عن الماضي القريب، والسبب هو ارتفاع أسعار المواد الأولية المستعملة، خاصة القصدير والنشادر والقطن بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل العملة اللبنانية.
ويضيف "الوعاء الذي كان يكلف 15 ألف ليرة لبنانية باتت تكلفته حوالي 50 ألفا، ومهما حاولنا خفض الأسعار لم نفلح في إيجاد الزبائن الذين باتوا من الماضي".
ومن بين هؤلاء الزبائن القلائل، كانت خولا القادري، التي لا تزال تعيش مع عائلتها من تربية الماشية في بلدة الوزاني بجنوب لبنان.
وتقول القادري ل(شينخوا) "نعمل في تربية المواشي منذ 35 عاما، وننتج كمية مقبولة من الحليب ومازلنا نستعمل الأواني النحاسية الكبيرة لغلي الحليب وتحضيره، كما نستخدم أوعية نحاسية أخرى في العجين لتحضير الخبز".
وتضيف "الأواني النحاسية بحاجة للتبييض بشكل دوري، ونخشى انقراض هذه المهنة، فعندها سنضطر لرمي الأواني النحاسية وإبدالها بأخرى غير متوافرة بالحجم والنوعية، التي تناسب عملنا".
وأردفت القادري قائلة "نخشى أن يأتي اليوم الذي نترحم فيه على تراث أجدادنا، فالكثير من الحرف القديمة زالت وانتهت، والخوف من اندثار قريب لما تبقى".

1