يثبت شارع المتنبي في بغداد في كل مرة أنه أقوى من كل العواصف، صامد بتاريخه أمام كل العقبات التي واجهها، وآخرها جائحة كورونا التي أغلقت مكتباته وغيبت زبائنه الذين يرتادونه كل جمعة، لكنه يعود مهللا من جديد بعشاق الكتب والجلسات في مقاهيه التي تفوح منها رائحة التاريخ.
بغداد ـ استبشر أصحاب المكتبات المنتشرة بشارع المتنبي في بغداد بعودة الحياة إلى الشارع الذي اعتاد أن يشهد اكتظاظا بالزائرين كل جمعة.
وكانت السلطات العراقية قد فرضت إغلاق المراكز الثقافية والأماكن العامة في بغداد قبل شهور عدة بسبب تفشي وباء كورونا، لكنها سمحت بفتحها بعد انخفاض معدلات الإصابة بالفايروس.
ويتحدث علي طالب، صاحب إحدى المكتبات، عن ظروف جائحة كورونا وكيف تداعت أحداثها على المكان الأدبي الأوسع في بغداد.
ويقول “خلال الفترة الماضية وبعد فرض الإجراءات الاحترازية والوقائية من قبل السلطات الصحية لمنع تفشي فايروس كورونا، بات شارع المتنبي عبارة عن أطلال”.
لكن الأمور بدأت بالتحسن وعاد الشارع يضج بالرواد والزائرين، ويضيف طالب “كنا نخشى أن يصاب المتنبي بمضاعفات الجائحة ويعتاد الأهل على هجرانه إلى الأبد”.
وفي ظل إغلاق الشارع بالكامل بسبب انتشار فايروس كورونا في العام الماضي، بدأ أصحاب المكتبات باكتساب رزقهم عن طريق التسويق الإلكتروني والترويج لعناوين الكتب وبأسعار تنافسية، وبعضهم استثمروا الجائحة وحظر التجوال لترتيب مكتباتهم وإعادة النظر في الكتب القديمة وإبرازها للجمهور. واليوم، تشهد بغداد إعادة النبض لروح الشارع الذي بدأ يستقبل القراء من أرجاء العراق.
ويقع شارع المتنبي الشاعر الذي ملأ الدنيا بقصائده، وسط المدينة بالقرب من شارع الرشيد، حيث تفترش الكتب جانبيه وتنشر المكتبات والمطابع على طوله، بينما ينتهي الشارع بإطلالة تمثال أبوالطيب المتنبي على نهر دجلة، قريبا من المركز الثقافي ومبنى وساعة القشلة.
وينتهي الشارع بقوس بارتفاع حوالي 10 أمتار، نقش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي “الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم”.
ويعود الشارع إلى أواخر العصر العباسي، وكان يعرف أولا باسم “درب زاخا” واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية.
وقد أطلق عليه اسم المتنبي في 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة.
وتحول الشارع في أوائل التسعينات، في ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق، إلى ملتقى للمثقفين كل جمعة للعديد من الأدباء والكتاب والرسامين وممارسي الفنون الأخرى حيث يتم عرض الآلاف من الكتب وتنتشر فيه مكتبات الرصيف.
ويعدّ الشارع اليوم الروح والرئة الثقافية والمركز الرئيسي للكتب والقرطاسية لأهالي العاصمة وللمحافظات العراقية، حيث يحتضن الآلاف من الكتب بجميع مجالاتها ومختلف عناوينها، وبأسعار زهيدة مقارنة مع دول أخرى، وتتوفر كتب في الشارع لا يتجاوز سعر الواحد منها دولارا أميركيا واحدا.
ويحرص عبدالله الشمري على زيارة شارع المتنبي كل جمعة، إلا أن جائحة كورونا فرضت عليه الانقطاع الإجباري، لكنه عاد إلى ممارسة هوايته المفضلة وطقسه الأثير بزيارة شارع الثقافة كما يسميه، بعد أن أعلنت السلطات أخيرا رفع الحظر الشامل الذي كان الجمعة والسبت.
وقال الشمري لوكالة الأنباء العمانية إن شارع المتنبي عاد ليتنفس من جديد، وهذه المرة عودة قوية بعد غزو جائحة كورونا الذي فرض حظرا للتجوال عالميا، مما زاد من تعطش الكثير من المثقفين والرواد لزيارة شارع المتنبي.
وأكد أن الشارع بدأت حركته تعود من جديد إلى سابق عهده، وأن الأيام المقبلة ستشهد إقبالا واسعا من الكثير من الناس من أجل ممارسة نشاطاتهم المعهودة كما كانت في السابق.
أما أبوعبدالله، وهو صاحب إحدى المكتبات في شارع المتنبي، فقال إن جائحة كورونا أثرت على سوق الكتاب، وأوضح أن الحركة بدأت تعود وأن الشارع يشهد إقبالا من الرواد بعد انقطاع عنه لفترة طويلة.
وكان شارع المتنبي يحتضن كل جمعة العديد من النشاطات والفعاليات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما دأب على استقبال الزوار من مختلف الفئات العمرية والشرائح المجتمعية.
ويقول كامل عبدالرحيم السعداوي (59 عاما) “منذ حوالي 31 سنة وأنا آتي إلى هذا الشارع كل جمعة. في كل مرة أقول إني لن آتي، لكنني سرعان ما أعود عن قراري”.
ويضيف إن “شارع المتنبي أشبه بالحبيبة التي تفرض نفسها عليك. الأصدقاء لا ألتقيهم إلا هنا، فهو أشبه بمتحف للوجوه قبل أن يكون مكتبة”.
وتقع في شارع المتنبي مقاهٍ مهمة يعود تاريخها إلى عقود تتجاوز المئة عام بينها مقهى الشابندر والزهاوي وحسن عجمي والأسطورة وأم كلثوم الذي سمي باسم كوكب الشرق بعد زيارتها الشهيرة إلى بغداد عند ثلاثينات القرن الماضي والغناء عند منطقة قريبة منه تسمى “خان المدلل”.
وتتزاحم الأقدام عادة عند كل جمعة على شارع المتنبي، إذ أنه توقيت معروف وموعد لا يبارحه الكثير من المحبين للقاء وتبادل الأحاديث ومطالعة الكتب، عادة ما تبدأ طقوسه باحتساء الشاي عند أحد تلك المقاهي إيذانا ببدء الجولة وانطلاقا نحو أزقته ومعالمه الأثرية.
ويقول محمد قبان، وهو سبعيني يسكن إحدى المناطق البغدادية القديمة، إن العراق بحاجة ماسة لأماكن أدبية وفكرية أكثر من أي مرحلة ماضية لكون “العراقيين أمام إرادات ومخططات ضخمة تحاول ممارسة غسل دماغ الفرد العراقي ونزعه عن الاتصال بالحضارات والثقافات الحقيقية”.
وضمن مساهماته المجتمعية أعلن البنك المركزي العراقي إعمار الشارع الذي ظلّ عنوانا للثقافة في بغداد.
وقال محافظه مصطفى غالب “إن البنك يسعى في مبادرته الجديدة لإعمار شارع المتنبي، مركز الثقافة في بغداد”
شارع المتنبي يستعيد نبضه وينفض الغبار عن كتبه..خير جليس في كل الأزمان كتاب!!
24.05.2021