بضعة رجال شرطة مدججين بعتادهم من أخمص الأقدام حتى فوق رؤوسهم بنصف متر في باب حطّة، يوقفون شابا نحيلا أسمر فارع الطول لم يتجاوز العشرين، يأمره الشرطي بالاستدارة ويتحسس ظهره وساقيه وبين فخذيه وتحت إبطيه، ثم يأمره بالاستدارة مرة أخرى ويعود ليفتش بطنه وظهره وتحت إبطيه وبين فخذيه مرة أخرى، ومرة أخرى وأخرى، وكأن الشرطي متأكد من وجود شيء ما على جسد الشاب النحيل، الذي لو وجدت عُلبة علكة تحت بلوزته لظهرت بوضوح.
الشرطي أعاد ملامسة المواضع نفسها في جسد الشاب عدة مرات والشاب يتحرك حسبما يطلب منه، والشرطي مُصر للعثور على هذا الشيء الخفي. أخيراً أعاد له شرطي آخر بطاقته الشخصية، ومضى الشاب داخل السور وفي عينيه غضب كبير وملامحه تقطر سموماً، حركة مشبوهة صغيرة ويتحول فوراً إلى شهيد.
الحركة التجارية ضعيفة جدا، ليس فقط في الأسبوعين الأخيرين، كثير من المحلات إما مغلقة أو أنها فارغة من الزبائن، تجار جالسون أمام محلاتهم يتبادلون نظرات الضجر، وأحيانا بعض كلمات تبدو مشفرة في ما بينهم.
الوحدات الخاصة وحرس الحدود أمامك وخلفك وعلى كل زاوية ومدخل تمر به.
في طريق الآلام رجل وامرأة أجنبيان يرفعان صليباً خشبياً كبيراً ويمضيان على خطى السيد المسيح، الذي مشي حاملا صليبه من باب الأسباط حتى كنيسة القيامة.
بوابات الأقصى ومسجد قبة الصخرة كلها مغلقة، باستثناء باب الأسباط المتاح، ولكن لا أحد يدخل ولا أحد ينوي الدخول، فهناك جسور حديدية معلقة جديدة لم تكن من قبل وهناك كاميرات، يرفض الناس المرور تحت رقابتها.
القضية هنا ليست قضية تفتيش عن سلاح، إنها قضية سيادة على الموقع، وهنا يستغرب المقدسيون المرابطون الهشاشة والخفة التي تعامل بها الملك عبد الله مع موضوع بهذه الحساسية، وسمعت أحدهم يترحم على الملك حسين ويقول إنه ما كان ليرضى بصفعة للمملكة كهذه، ونتنياهو وغيره كانوا يعطونه أهمية أكبر.
أقترب من حاجز الشرطة لالتقاط صورة (سيلفي) قريبة من الجسور الحديدية فيأمرني شرطي بالابتعاد، بحجّة أن هذا مكان مقدس! سألت نفسي، ما الذي حشاه قائده في رأسه قبل أن يزج به إلى هذا المفصل الذي يمس عصب مئات الملايين من البشر؟ بلا شك أخبره قائده بأن بعض قادة المسلمين يحرضون الناس على العنف والكراهية، وأنه يقف هنا بمهمة إنسانية، لحفظ أمن المصلين وحرية العبادة للمسلمين ولليهود وللمسيحيين، ولهذا قال لي «إبتعد فهذا مكان مقدس». قائده لم يخبره بأنه قوة احتلال غير شرعية، وربما قال له إن العالم كله يقف ضدنا لأننا يهود ليس إلا.
أهل القدس يعيشون قدسية المكان بحذافيره، قال لي أحد السكان بمرارة، إن الحجارة التي لم يمسسها أحد منذ ألف عام، صحونا فجر يوم الاثنين على جرافات البلدية بحماية الشرطة تحفر الأرض وتخربها وتحطمها، بهدف تثبيت ممرات معدنية وجسور تحمل الكاميرات، لو كانوا يقدرون قدسية المكان لما خربوا حجراً من حجارته.
في القدس لا تبعد الكنائس عن المساجد سوى أمتار قليلة، أحيانا عرض الزقاق فقط، عشرات الشبان الذين ينتظرون صلاة العصر يتكئون بظهورهم على جدار دير القديسة آن المقابل لمدخل الأقصى، ولهذا هناك من يسمي باب الأسباط بباب مريم، وكذلك له اسم باب الأسود، لأن على مدخله أربعة أسود من الرخام للزينة، منذ بناه الظاهر بيبرس وأعاد ترميمه سليمان القانوني.
مشهد جميل رأيته فجأة، المئات من الحضور يحملون قطع مثلجات صفراء اللون بطعم الليمون، قام بعض فاعلي الخير بتوزيعها، وما لبث أن دار بعض الشبان ووزعوا زجاجات المياه الباردة على الجميع كذلك الكعك والساندويشات والتمور، يقال إن السلطة في رام الله هي التي توزع المياه، ويقال أيضا إنها خصصت خمسة عشر مليون شيكل لدعم تجار القدس، والتجار يقولون ننتظر ونرى، رغم أن المبلغ صغير جدا قياسا بوضع التجارة في القدس. الأهم هنا أنك تشعر بالألفة والمحبة بين الناس، والاستعداد لأي خدمة، وتبتهج لنظافة الحمامات رغم الحشود الكبيرة وحولها العشرات من وسائل الإعلام التي تجري مقابلات مع بعضهم بلغات شتى.
إجماع تام على عدم الدخول إلى المسجد قبل عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الرابع عشر من الشهر الجاري، ولن يجرأ أحد على الدخول، إلا بعد إقرار الهيئات العليا، فالجموع واقفة بالمرصاد، هناك قرار قيادي وشعبي بعدم الدخول. همس لي أحد المرابطين إن أحد الموظفين التابعين للوقف الأردني تهاون بالأمر في البداية وحاول التخفيف من وطأة المرور، من خلال باب كاشف المعادن وقال لموظفين تحت إمرته إن الأمر لا يعنيهم، فهم يقومون بعملهم والناس أحرار يدخلون أو لا يدخلون، فرد عليه رجل من إحدى أكبر العشائر المعروفة في القدس والخليل، إذا دخلت فسوف أشرشحك بين الناس، فتراجع هذا الموظف وصمت.
في الأيام العادية وقبل هذا التوتر الحالي لم تكن تصل أعداد المصلين في صلوات العصر والمغرب إلى بضع مئات، ولكن في الأيام الأخيرة يصل عدد المصلين في صلاة المغرب إلى أكثر من عشرة آلاف مصل تقف صفوفهم الأولى على الحواجز في موقف سيارات باب الأسباط التابع للوقف، ثم تمتد وتتفرع إلى الأزقة المحيطة والبوابة حتى مقبرتي باب الرحمة واليوسفية، حيث ترابط قوات الشرطة بكثافة، هنا يرقد صحابة منهم، عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، وآلاف الشهداء على مر تاريخ القدس من كل الأقطار العربية والإسلامية.
يرتفع صوت المؤذن لصلاة العصر، ليس من المسجد، بل من مكبر صوت ثبت في موقف السيارات، قبل قليل كان هنا حوالي المئة من المرابطين والمرابطات، تلتفت حولك وإذا بك وسط آلاف من خلفك وأمامك لإقامة الصلاة. الله أكبر الله أكبر… هدوء تام، مصلون خاشعون ووسائل إعلام توجه عدساتها إلى وجوههم وشفاههم، وشرطة متوترة في أقصى حالات التأهب، هدوء كأنك في صحراء نائية لا همس فيها. تنتهي الصلاة ويسلم الناس وفجأة يصرخ أحدهم الله أكبر ولله الحمد، ثم يبدأ بالدعاء بصوت قوي وجهوري يدعو للوحدة والرباط والصمود وتردد الجموع من ورائه آمين آمين.
تتفرق الجموع ويبقى المرابطون والشرطة على موعد مع صلاة المغرب، التي صار يحضرها خارج المسجد عشرات أضعاف من كان يحضرها في الأيام العادية، أما صلاة الجمعة فتلك قصة أخرى.
صلاة عصر في باب الأسباط!!
بقلم : سهيل كيوان ... 27.07.2017