قال أبو العتاهية:
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عـيونه
والصمت أجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه
ذكرني موقف اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين من فارس الشعر العربي عبد الرزاق عبد الواحد، بذلك الطفل الذي وقف أمام نخلة عالية وسأل أباه: أبي اليس بإمكاني الصعود الى قمة النخلة وجني شيئا من ثمرها اللذيذ. فقال الأب: كلا يابني! لا يمكنك ذلك أنت أصغر من أن تفعل هذا! ربما تتسلق بضعة امتار، لكن من المحال ان تصل الى قمتها، لكن يمكنك التمتع بمنظرها الرائع، وشموخ كبريائها ، وتذوق ما تتكرم به من تمرها الشهي.
الكثير من الكتاب الأفاضل إنتقدوا موقف اتحاد أدباء العراق في رفض نعي الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد بعد أن هبت رياح التعازي على الفقيد من القارات السبع، والبعض الآخر أعتبره موقفا مفاجئا أثار إستغراب العراقيين ودهشتهم سيما أن الشاعر بلا أدن شك بيرق خفاق في سماء الشعر العربي، وليس العراقي فحسب. ومن يتجاهله هو بحق جاهل، وما فاته من الجهل إلا اليسير. لذا في رأينا المتواضع أن موقف الإتحاد موقفا طبيعيا جدا ويتوافق مع مسيرته المتعثرة منذ الغزو الغاشم لحد الآن، وعطائه الشحيح الذي لا يتوافق مع الوضع الراهن ولا ما يريده الشعب العراقي. موقفه ليس بالشاذ البتة، ولا يحتاج إلى العتاب والملامة.
بل على العكس لو صدر نعي من الإتحاد، لكان الأمر غريبا ولا يتوافق مع مسيرة الإتحاد الذليلة، ان قراءة استشرافية عابرة لحيثيات مواقفه منذ الإحتلال لحد الوقت الحاضر كفيلة بإزالة الضباب حوله وإظهاره معدنه الصدأ، فليس لديه موقفا مشرفا واحدا ينمٌ على نهج وطني. إنه تابع مطيع لحكومات الإحتلال، يغير جلده كما تغير الأفعى جلدها، ويتلون بكل لون كالحرباء تماما وفق مصالحه وإمتيازاته.
الإتحاد اصغر من أن يقيم شاعر عملاق مثل عبد الرزاق عبد الواحد، كما أن ان العمالقة لا تحتاج الى مديح الأقزام، والوطني لا يحتاج الى ثناء العملاء الذين يقفون في الضفة المقابلة لضفته. السارق لا يقيم القاضي، والتلميذ لا يقيم المعلم، والجاهل لا يقيم العالم، والعميل لا يقيم الوطني، والعاهر لا يقيم الشريف، فلم العجب من موقف الإتحاد الذي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه!
من جهة أخرى، ومن منطلق النوايا الحسنة لبعض الأدباء الذين لا ذنب لهم سوى الإنتساب الى هذا الإتحاد غير الأديب، الذي جل أعضائه لا علاقة لهم بالأدب، فقد إحتكر رئيسه موقفا معبرا عن الحكومة لا تساوي قيمته تكلفة الحبر الذي كتب به، لقد إحتقر أعضاء الأتحاد عندما عبر عن رأيهم جمعا دون أن يتعرف على مواقفهم من الشاعر. فهناك من رفض موقفه، وهناك من أستقال منه وعلق عضويته، وهناك من لم يعبر عن رأيه تملقا أو خوفا. وهناك من كتم حسراته الملتهبة وهي تكاد أن تحرق ثيابه.
كان من الأولى أن يأخذ رئيس الإتحادـ أو مجلس الإدارة رأي الأكثرية من أعضائه، قبل أن يعبر نيابة عنهم عن موقف لا يرغبون به، موقف أقل ما يوصف به هو الغباء والتفاهة والتمادي بالتملق للحكومة.
لكن من هو فاضل ثامر الذي أعلن موقف الإتحاد من تاج رأسه الشاعر الكبير؟ ما هي نتاجاته ونشاطاته الأدبية؟ ما هو موقفه وموقف إتحاده من كوارث العراق اليومية؟ ما الذي قدمه هو وإتحاده للوطن والشعب في محنته الكبرى؟ من هو كي ينصب نفسه قاضيا يحاكم شاعر العصر عن تهم لا صحة لها، وإنما هي وليدة مخيلته المريضة، وطموحاته السياسية؟
ألم يدرك هذا الثامر بعد ان معظم كتاب العراق وأدبائه لا علاقة لهم بإتحاده الوضيع؟ ألم يطلع على المواقع الالكترونية والصحف والمجلات ليرى من يتربع على عرش الأدب العراقي! هل هم أدباء الإتحاد ام الخارجون عن عضويته. من ينافس الشاعر المرحوم عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعر الكبير سعدي يوسف وأحمد مطر وغيرهم. أن معظم الأعضاء في الإتحاد لا علاقة لهم بالأدب، وعدد كبير من السياسيين حصلوا على عضوية الإتحاد بالضغط او الرشوة، مع أن علاقتهم بالأدب كعلاقة الطفل بحفاظته.
هذا الإتحاد العاق وطنيا والمعاق أدبيا، يمشي بعكازتين وراء الشراذم الحاكمة التي جعلت العراق اطلالا وخرائبا تنعق فيها الغربان، وتسرح فيها الذئاب المسعورة، لا مباديء ولا قيم ولا وطنية، ضمائر هشة كهشاشة قشرة البيض. يجلس بعضهم تحت موائد السياسياسين الفاسدين ليتلقوا الفتات الذي يرمى عليهم فيتقبلونه برضا وقناعة.
عندما يغوص الأديب الحر في بحار المعرفة والعلوم، سيعثر حتما على الدر المكنون والصدف غالية الثمن. وعندما يغوص الكاتب الأجير في مستنقع الجهل فأنه سوف لايعثر سوى على الكنيف والقذارة والعفن، كل حسب صفته ومكانته وجهده وحصيلته.
بلا أدنى شك هناك فرق كبير بين من نذر قلمه للوطن والشعب والقضية، وبين من نذر قلمه لمصلحته ولسلطانه. مداد الأول دمه، ومداد الثاني حبره. صفات القلم الأول الجرأة والشجاعة والتحدي والتضحية، وصفات القلم الثاني الرياء والكذب والتملق والتقلب. الأول سيد أفكاره، والثاني تابع ذليل كالعبد يمشي وراء ولي نعمته. الأول يصقل الحقيقة ويكشف العلل بكل شفافية دون مواربة، بعيدا عن كل الإغراض، إلا غرض واحد وهو الحقيقة المبنية على الوعي والإدراك والشعور بالمسؤولية الوطنية. والثاني يموه الحقائق ويزيف الوقائع ويتستر على العلل، ويتغاضى عن الخلل. الأول يخدم الوطن والشعب وقضاياه المصيرية، والثاني يخون الوطن والشعب والهوية الوطنية، الأول يستحق الثناء والتقدير، والثاني يستحق الإذلال والتحقير.
بهذه المناسبة، نهدي لروح شاعرنا الكبير هذه الأبيات الرائعة لإبن الأنباري:
علـــو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفـــــود نداك أيام الصلات
ونهدي بالمناسبة نفسها الأبيات التالية لاتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، واللبيب يفم الإشارة.
قال المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائــم ... وتأتي على قــدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في باحة الخلود!!
بقلم : علي الكاش ... 11.11.2015