أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الأردن : تطويع المجتمع المدني والجميع في خدمة النظام !!
بقلم :  د. لبيب قمحاوي* ... 04.08.2015

تـَمَيزَ الأردن عن العديد من الأنظمة العربية ، خصوصاً المجاورة له ، بنجاحه في إتباع سياسات وإنتهاج وسائل مَكـﱠنته من تطويع مؤسسات المجتمع المدني الأردني في مختلف المجالات والقطاعات . وقد تم ذلك على مدى سنوات عدة إنتهجت الدولة خلالها أساليب متعددة وتبنت مسارات مختلفة مستغلة بذلك كافة موارد الدولة وإمكاناتها من أجل تحقيق ذلك الهدف . وكان السبب وراء تعدد تلك الأساليب والمسارات سعي النظام الأردني لأن يكون ذلك المخطط شاملاً ويغطي كافة النشاطات في المجتمع المدني . وكان العُـذر المعلن لتبرير ذلك هو تعزيز الإستقرار الداخلي والأمن للوطن والمواطن . وكان الإيحاء المُبطـﱠن من وراء ترويج تلك المقولة يهدف إلى خلق قناعة لدى الأردنيين بأن إطلاق يد الحكم في إدارة الدولة ، وليس شؤون الدولة فقط ، يتطلب توفر حالة من الإنصياع العام للحكم وضرورة جعل الرأي الآخر جزأً من رؤيا الحكم وليس بديلاً عنها أو مرادفاً لها .
سعى النظام الأردني منذ عقود إلى التسلل التدريجي داخل مختلف مؤسسات الدولة ومن ثم مؤسسات المجتمع المدني بهدف تحويلها جميعاً إلى امتداد لظل الحاكم تحديداً . وكان المخطط المرسوم أن يتم ذلك بصمت وهدوء ودون أي إعلان وأن يأخذ مداه الزمني اللازم بحيث يتم غرس جيل بعد جيل من الموظفين والمسؤولين بصمت وإلى الحد التي تصبح فيه أي مؤسسة امتداد طوعي وحقيقي لظل الحاكم من خلال أولئك الموظفين والمسؤولين دون الحاجة إلى فرض ذلك عليهم . العملية تتلخص إذاً في إعادة تشكيل المجتمع المدني ومؤسساته بحيث يصبـح ، وعن قناعة ، امتداداً للنظام ورؤيته ورغباته . وشمل ذلك في الواقع كافة مؤسسات المجتمع المدني ومنها مؤسسات حقوق الأنسان ، والشفافية ، والأحزاب السياسية المدنية ومعظم النقابات ومؤسسات العمل الخيري والمؤسسات الإعلامية والإتحادات النوعية والمهنية ، والقائمة تطـول . وكان من الضروري تفتيت المجتمع من جهة وإيجاد القناة التي يتم من خلالها ولوج المؤسسات المنوي الإستيلاء عليها من جهة أخرى حتى يمكن تطبيق مثل تلك الرؤيا .
وَفـّرت الأجهزة الأمنية ، وخصوصاً جهاز المخابرات العامة ، الوسيلة الأمثل لتمكين النظام من ممارسة عملية الأختراق المنشودة ومن ثم الإستيلاء على هذه المؤسسة أو تلك . ولم ينحصر ذلك بالمؤسسات الرسمية والسياسية والدستورية بل إمتد ليشمل مؤسسات المجتمع المدني وهي الرئة التي يتنفس من خلالها المواطن في غياب ديموقراطية حقيقية .
إن عملية إحتلال مؤسسات المجتمع المدني الأردني من قبل المؤسسات الأمنية تعكس المنحى الشمولي لنظام حكم غير انقلابي في أصوله ونشأته مثل النظام الأردني ، وهو أمرٌ يستدعي وقفة جادة للبحث والتمحيص في الأسباب التي دفعته لتبني ذلك النهج . وفي كل الأحوال ، فإن ذلك يعكس حالة القلق والتوتر التي صبغت الحياة السياسية في الأردن وساهمت في جعل عملية الإستيلاء على مؤسسات المجتمع المدني موضوعاً مصيرياً بالنسبة للنظام الذي كان يسعى دوماً إلى الإستقرار الظاهري من خلال تطبيق سياسة الإلـغاء عوضاً عن الإستيـعاب ، وحَصَرَ كل شئ بالتالي بالنظام وتحت قبضته كوسيلة لتعزيز ذلك الإستقرار المزعوم .
المجتمع المدني في حالتنا هذه لا يقتصر على مؤسسات المجتمع المدني المتعارف عليها ، ولكنه يمتد ليشمل المجتمع نفسه والحياة السياسية ومؤسساتها . فإعادة تقسيم المجتمع ليتناسب والرؤيا السياسية للنظام وأهدافه هو أمر تتم ممارسته بشكل واضح وفاضح في الأردن. والنتائج كما يعيشها الأردنيون الآن قد خلقت حالة مأزومة من عدم التوازن لا يمكن تجاوزها أو التعايش معها إلا من خلال النظام الذي نجح في جعل نفسه نقطة الإجماع وصمام الأمان بعد أن نجح في تمزيق المجتمع الأردني .
فتقسيم المجتمع بشكل أفقي إلى قـَيْس ويَمَنْ هو أمر تمت ممارسته بشكل حثيث إنتقل مع الوقت من الممارسة الهادئه والصامتة إلى السياسة الصاخبة والممارسات الرعناء . وقد تبع ذلك تقسيم نفس المجتمع عمودياً إلى كنتونات جغرافيه تغذيها إنتماآت عشائرية أو جهوية جعلت من هذه السمة أمراً مألوفاً يميز بنية المجتمع المدني الأردني الذي ابتدأ يفقد خصائصة المُميَزّةَ لصالح صفات أقرب ما تكون إلى تجمعات عشائرية منها إلى مجتمع متماسك ومتجانس .
وبعد أن تم تقطيع المجتمع أفقياً وعمودياً ، تم إختزاله سياسياً في عصبيات عشائرية أو عائلية متناحرة فيما بينها من خلال قانون "الصوت الواحد" الإنتخابي ونظام الكوتات في المناصب العليا ، إلى الحد الذي لم يعد فيه كبير لا في العشيرة ولا في الأسرة . وأصبح التنافس على الموقع هو العذر المُحِلّْ لمزيد من التفتيت داخل الأسرة أو العشيرة ناهيك عن ما تبقى من المجتمع .
ولم يقف الأمر عند حدود التعامل مع المؤسسات والتقسيمات البشرية والجغرافية ، بل تـَعَدﱠى ذلك إلى إستعمال القانون من أجل تقنين مثل تلك السياسات . وأخطر مثل على ذلك هو إستعمال القانون للتلاعب بأمور أساسية ومصيرية مثل مفهوم المواطنة الناجزة .
إن الإطاحة بمفهوم المواطنة الناجزة لصالح مفهوم المواطنة المشروطة والمواطنة المجتزئة كان شرطاً أساسياً لنجاح مخطط الإستيلاء على المجتمع المدني والتي حولت المجتمع الأردني إلى مجموعة من الأقليات تحكمها حزمة من المصالح المرتبطة إرتباطاً مباشراً بالنظام ومؤسساته . وقد أدى واقع الحال هذا إلى تفكك المجتمع وعودته إلى أصوله العشائرية وإنتشار عقلية الغزو كوسيلة للوصول إلى المكتسبات عوضاً عن إعتماد مفهوم الشفافية وتكافؤ الفرصة وسيادة القانون . إن التلاعب بالمواطنة كأحد وسائل السيطرة على المجتمع المدني أمرٌ في غاية الخطورة خصوصاً وأنه نهج سلبي يهدف إلى السيطرة من خلال التفتيت والتقسيم وسحب الدم من عروق اللحمة الوطنية بإعتبارها أمراً ثانوياً لا قيمة له .
ونتيجة لذلك فـَقـَدَ المجتمع الأردني خصائصه تدريجياً وعكس ذلك نفسه على قدرة النظام على الأنفراد بالقرار السياسي والأمني والأقتصادي والتنموي وحتى القضائي دون أن يُجابه أي معارضة حقيقية . وحتى لو كان هنالك إعتراض شعبي عام على سياسةٍ ما أو قرارٍ ما ، فإن ذلك أصبح محصوراً بالأعتراض الصامت أو الشفوي دون أن يتطور ذلك إلى معارضة حقيقية أو ثورة شعبية .
يعاني الأردن الآن من حالة متقدمة ومتفاقمة من الفساد السياسي الذي صادر مجمل الحياة السياسية والفساد المالي الذي ضرب كافة أوجه الحياة بالأضافة إلى ضعف عام في العمل المؤسسي سمح باختزال البلد ومؤسساته الدستورية والأمنية في بضعة أشخاص . ومع ذلك ما زلنا نسمع الأردنيين يسبحون بنعمة الأمن الداخلي والهدوء الذي يتمتع به الأردن بإعتبارهما إنجازاً أردنياً ومنحة من النظام للأردنيين . وهذا كلام أبعد ما يكون عن الصحة . فما يتمتع به الأردن من أمن وإستقرار هو محصلة لدوره الوظيفي وهو دور أخطر مما يظنه الكثيرين ، وتبعات هذا الدور سوف تكون ملحوظة في المستقبل القريب وعلى مستوى الأقليم . فالأمن والإستقرار في الأردن ليسا إنجازاً للنظام . وأي إدعاء بغير ذلك يهدف إلى تبرير عملية الإختراق والمصادرة التي يتعرض لها المجتمع المدني الأردني ومؤسساته وكل ما ترتب على ذلك من إخلال أو انتهاك لثوابت المواطنة وحق الأردنيين في الإشراف على إدارة شؤونهم من خلال المؤسسات الدستورية ومؤسسات المجتمع المدني .
وأخيراً ، فإن المواطنة الأردنية أصبحت تعبيراً غامضاً يعني شيئاً للبعض وشيئاً مختلفاً للبعض الآخر ، ولم تعد هوية سياسية تعني نفس الشئ للجميع . والمسؤول عن ذلك هو النظام الذي إنطلق من مبدأ "فرق تسد" وإستبدل التنافسية والشفافية بالإقصاء والإستئثار ، وجعل من الأردن وطناً يكون الولاء فيه للمصلحة الذاتية أولاً ، بعد أن تم إستبدال روح الجماعة بالمصالح الضيقة لمجموعات مبعثرة هنا وهناك .

1