نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا للكاتب والمؤرخ حسين عمر اتهم فيه الحكومة المصرية بتجريف تاريخ عائلته.وقال الكاتب إن والدته التي ماتت عندما كان مراهقا دفنت إلى جانب أجدادها في ضريح تاريخي بمنطقة في القاهرة تعرف بالقرافة أو مدينة الموتى، وهي أقدم مقبرة إسلامية في العالم ويعود تاريخها إلى القرن السابع.
ويقول الكاتب إن أجداده اختاروا مكان الدفن هذا ليكونوا قريبين من الإمام الشافعي الذي يرقد في ضريح ضخم هناك. ولدى عائلته خمسة أضرحة بالمنطقة المجاورة، أقدمها يعود إلى تسعينيات القرن الثامن عشر.
وتبدو المقبرة من الخارج مثل بيوت القاهرة في العصور الوسطى، وفي داخلها حدائق وشواهد رخامية وغرف مزخرفة تعلق في سقفها الثريات المغبرة حيث كان الفاقدون يعقدون الجلسات الليلية في العطل والذكرى السنوية على الوفاة. ومع أن تقاليد قضاء الليالي مع الموتى قد اختفت إلا أن الكثير من هذه الغرف تسكنها عائلات. وربما كان هناك نصف مليون أو أكثر من المصريين يعيشون بين القبور. فهناك متعهدو دفن الموتى والحرس والخطاطون وبائعو الزهور والحجارون والمعزون المحترفون، عاشوا لأجيال في البيوت التي بناها القاهريون للموتى، فمدينة الموتى ظلت دائما مدينة الأحياء.
ويقول الكاتب إنه يزور قبر والدته منذ 22 عاما، وتعرف في زياراته على العائلات التي تعتني بالضريح وتنشر غسيلها بين القبور لكي يجف في الهواء. ويشير إلى أن زياراته ساعدته على الحصول على معنى من الخسارة التي لا معنى لها. وقال إنهم زرعوا زهرة بونغوفيليا ونصبوا مظلات في الساحة حيث كانوا يقومون بالصلاة والدعاء. وجعلته زياراته مهتما بتاريخ عائلته ومصر. ومع محدودية استخدام الأرشيف القومي بسبب قيود أمن الدولة والمتاح فقط لداعمي الروايات القومية، جعل الكاتب المقبرة أرشيفا له.
ويرى حسين عمر أن مدينة الموتى ليست مجرد مخزن ذكريات، بل هي آخر المستودعات المفتوحة للذاكرة التاريخية المصرية. واليوم يتم نبش الموتى وإخلاء الأحياء وجرف البيوت التي كانوا يعيشون فيها.
حسين عمر: مدينة الموتى ليست مجرد مخزن ذكريات، بل هي آخر المستودعات المفتوحة للذاكرة التاريخية المصرية
تم جرف مدينة الموتى اليوم لفسح المجال أمام بناء طريق سريع اسمه الحالي، طريق الجنة (سلسلة من الجسور المعلقة)، التي تزعم الحكومة أنه سيخفف من حدة حركة السيارات في القاهرة. وزادت وتيرة العمل في هذا المشروع، الذي بدأ عام 2019 وسيربط المدينة بالعاصمة الإدارية، التي يبنيها عبد الفتاح السيسي، بكلفة 59 مليار دولار.
وكل هذا جزء من خطة السيسي لتحديث القاهرة في سلسلة من المشاريع التي تشمل محو الأحياء السكنية وتشريد مئات الآلاف من الناس وهدم البنايات القديمة القائمة منذ قرون باسم التنمية.
ويقول الكاتب إن غضبه من المحو العنيف ليس نابعا من رؤية رومانسية جمالية متمسكة بالماضي، أو حتى إمكانية خسارة قبر والدته، ولكن عمليات الهدم هذه هي جزء من خطة كبيرة لها تداعيات خطيرة على الديمقراطية والديموغرافيا على حد سواء.
وعلى مدى العقد الماضي، أدت عمليات الطرد القسرية مهمة لتحقيق رؤية التنمية التي يشرف عليها الجنرالات، وفرضت الدولة وبعنف رؤية عن التاريخ حرمت العائلات من بيوتها.
وتحاول حكومة السيسي ومنذ عام 2017 إخلاء 200 ألف عائلة في جزيرة الوراق على النيل، والتي عاشوا فيها مئات السنين، من أجل فتح المجال أمام بناء ناطحات سحاب. ويزعم المسؤولون أن السكان هناك غير قانونيين، مع أن الكثير من العائلات لديها وثائق تثبت حقها في العيش بجزيرة أجدادها. وبنفس السياق، تم إخلاء 4 آلاف شخص في 2018 بالقوة من منطقة مساحتها 86 فدانا في وسط القاهرة، والتي هدمت من أجل شركة معمار دولية. وتحت غطاء حماية السكان من الإقامة في مساكن غير آمنة، أدى إخلاؤهم وعملية الهدم التي أعقبت ذلك إلى تنظيف مساحة كبيرة من القاهرة تعود للقرن التاسع عشر، وكان ذلك ستارا خفيا للاستيلاء على عقارات عالية السعر.
ويرى عمر أن العلاقة بين التاريخ والبيئة في القاهرة لا تنفصم، ففي مدينة الموتى تعلم عن التجربة الديمقراطية التي لم تعمر في مصر، فتحت التراب جد اختاره نابليون بونابرت لحكم مصر في تسعينيات القرن الثامن عشر، وآخر ساهم في استقلال مصر عن الاستعمار البريطاني عام 1922، وثالث ساهم في كتابة الدستور عام 1923 والذي أقام ديمقراطية ولأول مرة في مصر. وكان جد أمه الذي أحبته وأرادت أن تدفن بجانبه عضوا في مجلس الوصاية المكون من ثلاثة أعضاء وساهم بعملية الانتقال من الملكية للجمهورية.
يقول عمر إن السيسي لا يهمه تاريخ مصر الحديث، فالتواريخ التي تعلمها من مدينة الموتى تقف حاجزا أما الماضي الفرعوني البكر. ففي عام 2021 نظم السيسي مسيرة عسكرية للموميات الفرعونية لحشد الدعم لحرب محتملة مع إثيوبيا.
ويضيف أن الزمرة الحاكمة قامت بمحو كل شعارات الربيع العربي في ميدان التحرير ووضعت مسلات منهوبة من المواقع الأثرية وكباشا، وأعلنت بلدية القاهرة قبل فترة عن خطط لتسمية جزيرة الوراق باسم الإله حورس.
حسين عمر: ربما استلهم السيسي من الماضي الفرعوني إلا أن حكمه يستدعي حقبا أقل فخرا من التاريخ المصري الحديث، فمشاريعه الكبرى الباهظة الثمن، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، تشبه تلك المشاريع التي قام بها الحاكم العثماني المكروه إسماعيل باشا
وربما استلهم السيسي من الماضي الفرعوني إلا أن حكمه يستدعي حقبا أقل فخرا من التاريخ المصري الحديث، فمشاريعه الكبرى الباهظة الثمن، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، تشبه تلك المشاريع التي قام بها الحاكم العثماني المكروه إسماعيل باشا في منتصف القرن التاسع عشر، والذي اقترض مثله بشكل كبير من المقرضين الأجانب وأطاحت به ثورة شعبية.
وبالنسبة للسيسي، فإن تاريخ القرن التاسع عشر والعشرين المرتبطين بالسياسة الثورية والمعركة من أجل الديمقراطية يجب محوه. وبدلا من ذلك فالدولة تعبر عن رؤية شمولية لا تنازل فيها واستدعاء ثقافة قديمة كان الملوك فيها هم الآلهة. ورغم العنف الذي يواجه الناشطون في مصر، فهناك نحو 65 ألف معتقل سياسي، كما قُتل على الأقل ألف شخص في السجن تحت مرأى وسمع السيسي، إلا أن هناك قصصا بطولية عن مقاومة تجريف مدينة الموتى. وتحدى عدد من طلاب الفنون الجيش وساروا نحو المدينة لتوثيقها قبل هدمها المحتوم، وجرى اعتقال بعضهم. واستقال خمسة أعضاء في مجلس شكلته الدولة للتغطية لدراسة عملية التدمير، برغم الضغوط من الدولة عليهم للبقاء.
وترافق غضب القاهريين مع صمت من المنظمات الدولية التي يشعرون أنها تخلت عنهم.
ويتابع الكاتب أن مدينة الموتى هي جزء من التراث العالمي ومحمية بالقانون من الأمم المتحدة بمصادقة مصر على الحماية. ويشعر الناشطون أن على منظمة اليونسكو أن تقرع أجراس الخطر، من الدمار المحتوم. ويشير الكالتب إلى أن خالد عناني، وزير السياحة والآثار السابق والذي أشرف على شطب الكثير من الأماكن التاريخية، يقود حملة لتولي منصب الأمين العام لليونسكو في العام المقبل. ويقول إن هدم مدينة الموتى وصمة عار في سجل عناني ويجب أن يفقده الأهلية للترشح.
ويرى الكاتب أن هجوم مصر على التاريخ والبيوت، خطير للقوى مثل الولايات المتحدة التي تعتمد على مصر من أجل الاستقرار الإقليمي. وأن عمليات الإخلاء الجماعي قد تؤدي إلى زعزعة استقرار بلد يسير نحو الإفلاس، وسيزيد عدم الاستقرار من خلال الكوارث البيئية الناجمة عن مشاريع السيسي العملاقة، فالعاصمة الإدارية الجديدة بحاجة لكميات هائلة من المياه التي يجب تحويلها للصحراء كصب الإسمنت في حدائق مدينة الموتى مما يهدد ما تبقى من مساحات خضراء في القاهرة.
وأمام المعضلة التي تواجه الكاتب وحتمية هدم قبر والدته وأجداده، فهو أمام خيار نقل رفاتهم إلى مكان آخر في ضواحي القاهرة، أي القيام بعمل الحكومة مسبقا، أو رفض نقل القبور، مما يعني سحق رفات والدته بالجرافات. ومعضلته وغيره من العائلات رمز لعملية نزع الأنسنة، التي لا يمكن وصفها، عن المصريين الذين يعانون من حكم النخبة العسكرية.
وفي ظل الثمن القاتل الذي دفعه المصريون لتحديهم سياساته، فإن العاصمة الإدارية البراقة للسيسي ستكون، لو أكملت في النهاية، مدينة الموتى الجديدة للمصريين وأقيمت على عظام المطرودين والذين قتلهم النظام.
جرافات السيسي “تقتلع مدينة الموتى وتاريخ مصر وتقيم عاصمة جديدة على عظام المشردين”!!
بقلم : الديار ... 26.09.2023