بيت لحم - روان الأسعد -بالرغم من بعد المسافات بين مدينتي بيت لحم وطولكرم، فـإن زنازين الاحتلال اختصرت مئات الكيلومترات بقلب الأسير أسامة الأشقر وخطيبته منار خلاوي ليكون ارتباطهما شاملا يتنفس من خلاله أسامة الحرية.
منار الشابة التي تبدو كغير بنات جيلها، يسكن الإصرار حديثها ويملؤها الأمل وهي تروي لـ"القدس" دوت كوم، الحكاية التي بدأت منذ عام 2016 عندما نفذ ابن خالها الأسير بهاء الدين عودة عملية طعن، وتم على إثرها إصابته واعتقاله في سجن عيادة الرملة، وقبل أن تلتئم جروحه ويتعافى، تم نقله إلى سجن ريمون، وتعرف حينها على الأسير أسامة الأشقر وأصبحا أصدقاء وإخوة.
تقول منار: بحكم قرب علاقتنا من ابن خالي بهاء الدين، أننا كنا نتصل به كثيراً، ولا تخلو محادثة من ذكر اسم أسامة مراراً وتكراراً على مسامعنا، وكان اسمه لا يفارق لسان بهاء ، هنا تملكني الفضول لأن أعرف من هو هذا الأسير، فأنا بطبيعتي أميل كثيراً إلى قضية الأسرى، وما إن أسمع عن أي أسير حتى أقرأ عنه وأعرف تفاصيل اعتقاله، وبالفعل بحثث على محرك جوجل عن الأسير أسامة الأشقر لأعرف أكثر عنه.
كان أسامة بالنسبة لمنار بطلاً خارقاً، وتعجبت من شاب عمره عشرون عاماً أن يكون قائداً من قادة كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة «فتح»، وأن يطارد وهو بعمر الثمانية عشر عاما لسنتين قبل أن يتم اعتقاله في كمين نصب له، أكثر ما لفت منار هو أن كيف لشاب بمقتبل العمر أن يكون هكذا، ورغم ظروف اعتقاله والتهم التي وجهت إليه وتعرضه لكافة أشكال التنكيل والتعذيب التي لم يتورع الاحتلال عن استخدامها بحقه، إلا أنه لم يفقد إرادته، بل أكمل تعليمه داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأنم امتحان الثانوية العامة، وكتب مقالات، ومنذ أن تعرفت على طبيعة شخصية أسامة، بدأت منار تتعلق به.
توضح منار: بحكم قوة العلاقة بين أسامة وبهاء، تعرف الأهل ببعضهم، أما أنا فقد كنت أتواصل معهم عن طريق إذاعة صوت الأسرى، وكان دائما يسمعني، وتعلق بي أيضاً، فقد كان يسأل بهاء عني، إلى أن تحدث أسامة إلى بهاء بموضوع الارتباط والخطبة، فرفص بهاء الفكرة على الفور، كونه محکوم بثمانية مؤبدات وخمسين عاما، ومن المستحيل أن يوافق أهلي، وأفعل الموضوع في حينه، حتى ثم نقل أسامة إلى سجن جلبوع، وهناك لا توجد أي وسيلة للتواصل بين الأسرى، فكنت أنا المرسال بينهم عن طريق الإذاعة أنقل مراسيل الأسرى لأسامة.
في عام 2018 طلب أسامة رقم منار ليتواصل معها ليشكرها على وقفتها مع الأسرى، وجهودها بالتواصل معهم ليصارحها
بعدها، ويسألها إن كانت لديها الرغبة بأن ترتبط به، وأن يتقدم لها، توضح منار، التي تقول: بالتأكيد لم يكن لدي مانع، فقد كنت أنتظره من سنتين، وأجبته بأن هذا شرف لي أن أكون معه ورفيقة له وشريكة حياته.
15 تشرين الثاني.. تمت الخطبة
وتتابع:هنا كانت العضلة والصعوبة كيف يتقبل الأهل الفكرة، ورغم الرفض القاطع لكلا الجهتين لم تفقد الأمل، بل زادنا إصرارا، وعلى مدار سبعة أشهر وأسامة يبعث الواسطات لأهلي ليغيروا فكرهم، إلى أن تمت خطبتنا في الخامس عشر من تشرين الثاني بعد يوم من ذكرى اعتقاله الثامن عشر، ليبدأ عامه التاسع عشر داخل المعتقل، لكن هذا العام أنا عيناه خارج القضبان، وجسده الذي يتنفس حرية، ما كان الدافع والحافز لي لأكمل بعد بكالوريس الصحافة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية.
بحرقة تقول منار:لم أز أسامة حتى الآن، نحن لا نعرف بعضنا إلا من خلال الصور، وأنتظر أن تنتهي معاملة عقد القرآن لأزوره .
منار التي كانت تحلم كأي بنت أن تتزوج وترتبط بشاب تمسك يديه وتلف الدنيا معه وهو بحوارها، تغيرت نظرتها وتراكيب حياتها، وأدركت أن حياة الفلسطينيين ليست حياة عادية، وأيقنت تماماً أنها كجزء من هذه القضية، وزاد تشبثها بقضية الأسرى.منار رهينة المحبسين محبس الخطبة، ومحبس الأسر، تدرك تماماً الخيارات التي أمامها في الحياة، وتحولت قصة أسامة إلى إعجاب ثم حب ثم محبس خطبة، بكل مافيها من وجع من نوع خاص، فيه ترقب وأمل، وربما يتسلله الخوف رغم إيمانها التام بأن إرادة الله فوق كل شيء، وربما تكون هناك معجزة بين عشية وضحاها، تقلب الموازين، وتخرج أسامة من ظلمات السجن إلى ربيع الحياة، رغم وعيها أن وجود الأسير المحكوم 8 مؤبدات في حياتها الآن هو حضور روحي في غياب الجسد، إلا أن فكرة الارتباط الروحي كانت الكفة الراجحة في ميزانها لتدافع عن ارتباطها الروحي بخطيبها أمام كل الناس الذين يتعجبون من قرارها، ومن الخطوة التي أقدمت عليها.
بملامحها الناعمة الهادئة، وبكل رباطة جأش ، تتعجب منار من الناس التي تقول إن أسامة بعيد عنها، وإن حلمها بتحرره
بعيد المنال، وتقول: أنا أراه أقرب من أنفاسي، وإن كان الناس يظنون خروجه من السجن استحالة، وسعادتي بمكان يرونه ضربا من الجنون أو طريقا للهلاك، أنا أرى العكس تماماً، فارتباطي بإنسان لديه قيم ومبادئ لم يفكر بها غيره هو أقوى وأسمى من تلك الترهات التي يتفوهون بها يكفي سعادتي حين قال لي: "أنا كنت مدفوناً بقبر وأنت أحييتني وأخرجتني منه"، فأنا أرى أن الأسرى لم تضعهم إسرائيل وحدها بمدافن الأحياء للأسف، بعض الناس يتعاملون معهم على أنهم مجرد أرقام انتهوا أو ماتوا!.أسامة الذي قرر من أول يوم له بالسجن أن هذا اختبار له وحياة جديدة لم يقنط أو يستسلم، بل كان ممتلئاً بالعزيمة والإصرار ومؤمنا أنها فترة وستمر، واصل دراسته خلف القضبان، وانتسب إلى إحدى الجامعات إلى فصل واحد فقط، ثم منع من استكمال دراسته من الاحتلال، وعانى كثيرا إلى أن حصل بعد 15 عاما على بكالوريس في تدريس الاجتماعيات.
السجن مذاق آخر
وكتب أسامة العديد من المقالات السياسية والثقافية، وما زال يكتب ليوصل للعالم أجمع أن الأسرى أحياء لو أن أجسادهم داخل السجن، وبدأ بمشروع ثقافي عام 2009، وهو مراسلات مع الأدباء والمثقفين والشعراء ليربط الأدب الفلسطيني بقضية الأسرى، ويرفع صوت الأسرى إلى العالم أجمع، ليعلم أن الأسير هو إنسان حي رغم كل الظروف، وقادر على العطاء لا تحده القضبان والقيود، ففكره حر رغم جسده المكبل، وقريبا سيصدر الكتاب الثاني لأسامه ويرى النور تحت عنوان " رسائل كسرت القيد" ليرى النور وهو اكتمال نضوج المشروع الثقافي بما يتضمنه في ثناياه.وعلى وجه منار ابتسامة فيها عز وفخر وهي تقول: "أنا أكتب مقالات أسامة وهو يحكيها على سماعة الهاتف"، وفي تاريخ الرابع عشر من شهر تشرين الثاني 2020 رغم أنه ذكرى اعتقال أسامة، كان حفل إطلاق كتابه "للسجن مذاق آخر"، فالجزء الأول منه كتبه من خلالها عبر الهاتف، أما الجزء الثاني فقد كتبه عام ٢٠١٠ وأخرجه لها من السجن على دفتر .منار التي راهن الكثيرون على صبرها وحبها لأسامة، وعدم قدرتها على إكمال الطريق معه، خسروا الرهان فما زادتها هذه السنوات إلا حبا له وإصرارا على إكمال حياتها معه، وعن لهفتها وشوقها لزيارته، وتوقها لذاك اليوم بفارغ الصبر تقول بسعادة وحب: لو يعود الزمن بي مليون سنه سأكرر حبي لأسامة فيها جميعا، ورغم أنني أراه 45 دقيقة فقط إلا أنها أسعد لحظات حياتي، تمر كالثواني التي أحيا بها عمرا من السعادة رغم الإجراءات والزجاج الفاصل بيننا، إلا أن المشاعر لايمكن وصفها بالكلمات فلا شيء يعبر عنها.وتابعت: أسامة هو أجمل اختيار بحياتي، أحمد الله عليه دوما، فطموحه وعزيمته وإصراره يمداني بالقوة والشجاعة فقد تغيرت شخصيتي كثيرا وأصبحت أقوى من ذي قبل وقد شجعني لأنهي دراسة الماجستير وحاليا نستعد سويا لإكمال الدكتوراه هو ملهمي وأنا عيانه خارج القضبان ولسانه وقد زادت علاقتنا قوة أكثر من ذي قبل فأنا أعيش دوما على لهفة لقائه من الشهر للشهر.وبصوت به الكثير من الأمل الممزوج بالحزن قالت: رغم أننا بتنا أنا وأسامة أقرب، وصرت أفهم تفاصيل حياة الأسرى المؤلمة بكل حذافيرها، للأسف شيء ما تغير بداخلنا وكأن الضوء الكبير داخل نفق الحرية بات ضعيفا وخافت وبارد جدا، بعد التراجع في قضيتنا الفلسطينية في كل المحافل، وضعف اهتمامنا بالأسرى وقضيتهم واقتصاره على الشعارات، لكن العزيمة والإصرار بداخلنا شعلة متقدة لا تخمد نيرانها أبدا وأملنا بالله كبيرا وكأننا ننتظر معجزة بين ليلة وضحاها تقلب الموازين وتغير الأحوال، وأقولها بكل أسف طموحات الأسرى الكبيرة، بدأت تصغير وضاع بصيص الأمل عنهم وتاهو عنه. هناك كلمات أبلغ مما روته منار عن أسامة الغائب الحاضر التي اختارته واختارها ليكملا مشوار الحياة معاً تحت فسحة سماوية وزنزانة، على أمل أن تجمعهما الحرية، أوَليست قصتهما أعجب وأغرب من قصص الخيال.
منار وأسامة .. حكاية أنارت عتمة المؤبدات الثمانية!!
بقلم : الديار ... 12.01.2023
*المصدر : "القدس" دوت كوم