أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الطنطورة والبحر... مغسل الخيّل ومشلح الليل وريح الصيّادين (3/3)
بقلم : الديار ... 19.03.2022

هذه المقالة هي الأخيرة من أصل ثلاث مقالات حَوْل الطنطورة المهجّرة، ركّزت على الطنطورة وعلى برّها وبحرها وعلاقة أهلها بهما، وبخاصة ببحرها الذي جمعته وأهل الطنطورة علاقة خاصّة شملت جوانب كثيرة.
في حضن البحر
في الطنطورة، كان كل أبنائها يُجيدون السباحة والغطس في الماء، لكن لا يوجد طنطوري واحد يمكنه تذكّر من الذي علّمه السباحة! فأبناء القرية كلهم ولدوا في حضن البحر، يقول عبد الجبار أبو شكر، ابن قرية الطنطورة المُهجرة[1].
ويُعيد بعض مؤرخي فلسطين، السباحة في البحر المتوسط كممارسة ثقافية - ساحلية، إلى النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدا في ثلاثينيات القرن الماضي، على اعتبار أن فلسطينيي الساحل، لم يكونوا يجيدون السباحة قبل ذلك![2]. إلا أن ذلك غير صحيح، أو على الأقل، قد ينطبق تعلم السباحة في بدايات القرن العشرين في البحر على سكان المدن الساحلية. بينما الريف الفلسطيني - الساحلي، والذي همّشته أقلام الباحثين والمؤرخين، فقد تعلم أبناؤه الغطس في الماء في مراحل مبكرة من القرن التاسع عشر[3].
لم تبدأ ممارسة السباحة لدى أبناء قرى ومضارب البدو الساحلية الذين توطنوا حافة البحر المتوسط كممارسة رياضية، بقدر ما أنها تطورت عن ثقافة "الاستحمام" في البحر وخصوصا لدى بدو الساحل. وكذلك أهالي الطنطورة، الذين تعودوا بعد كل يوم عمل مجهد في الحقول، الغطس في البحر لإراحة أبدانهم وغسلها فيه[4]. حتى بئر المكر داخل البحر، التي كان ماؤها حلوا صالحا للشرب، تحولت بعد مد شبكة المياه إلى القرية في الثلاثينيات، إلى حوض يستخدمه سبّاحي القرية، لـ"تحلية" أجسادهم، أي شطفها بالماء الحلو بعد الاستحمام بماء البحر[5].
وكان في شاطئ الطنطورة من شمالها، موقعا مخصصا للسباحة، أطلق عليه أهل القرية اسم "مغسل الخيل"[6]. ليس لأنهم تعودوا فقط غسل خيلهم فيه، إنما لتقليد متعلق بترويض الخيل داخله أو "تطبيعها" كما يُقال في العامية الفلسطينية. فأهل الطنطورة وأهالي ريف الساحل عموما، انتبهوا إلى فكرة ترويض الخيل وركوبها لأول مرة، داخل ماء البحر؛ وذلك لأن الماء يقيّد ويضبط حركة الفرس أو الحصان المركوب لأول مرة، مما يسهّل عمليه ترويضه.
كما أُطلق الطناطرة على مغسل الخيل، تسمية "مشلح الليل"[7]. وهي تسمية نسائية بالمناسبة، فالسباحة في الطنطورة لم تكن تقتصر على الرجال، إنما الطنطوريات أيضا أجدن الغطس والسباحة بماء البحر، ولكن في الليل! تعودت نساء القرية السباحة ليلا، بعد تنبيه مسبق لرجال القرية، إذ كان يجري التعميم على أهالي الطنطورة، بأن نساء القرية سينزلن للسباحة في مشلحهن قبل يوم أو يومين[8]. وكن عجائز القرية يتولين مهمة حراسة النساء أثناء سباحتهن في البحر[9]. ومن هنا، كان اسمه مشلح الليل، لأنه المكان الذي تعودت نساء القرية خلع وتبديل ثيابهن فيه ليلا،ولأن الليل يتيح للنساء ممارسة خصوصيتهم في البحر بعيدا عن أعين الرجال.
إن "مغسل الخيل" أو "مشلح الليل"، أُختير مسبحا لأهالي القرية، لأن مياه شاطئة كانت صافية، ويمتد داخل البحر عن حافة الشاطئ مسافة كيلومتر واحد بعمق أقل من مترين، مما كان يمنح نواعا من الأمان للسباحة فيه. كما كان يقصد هذا الموقع للسباحة يهود مستعمرة "زُمّارين" ("زخرزن يعكوف")، بعد استئذان مختار القرية، كما اعتاد الموظفون والعسكريون الإنجليز قضاء عُطلهم الأسبوعية فيه[10].
ونادرا ما تحث أهالي الطنطورة في رواياتهم الشفوية عن علاقتهم ببحر قريتهم قبل تهجيرها، عن حالات غرق تعرض لها أحد من أبناء القرية، لا بل أجاد الطناطرة إنقاذ الغَرقى الغرباء الذين كانوا يفدون شاطئهم للسباحة فيه. ومن مهاراتهم أنهم كانوا "يُقبّون" الغريق الغريب، أي قلبه على بطنه لإخراج ماء البحر منه[11].
زوارق وريّاس
ما من عائلة طنطورية إلا وكان لها ريّسها في البحر، مثلما لها وجوهها ووجهائها بين الناس. فالطنطورة كانت مقسومة اجتماعيا ومعيشيا إلى ثلاث فئات بين أهلها : شدّادة وفلتية وصيّادي[12]. ومع ذلك عاش الطناطرة كما قالوا عن أنفسهم: " مترابطين مثل شبكة الصيد"، مما جعل امتهان صيد السمك متصلا بعائلات بعينها أكثر من غيرها، وخصوصا تلك التي لم تملك أرضا لفلاحتها، ففرت إلى البحر بحثا فيه عن كسبها ورزقها.
وكان البحر قُبالة الطنطورة يتحول إلى غابة من أشّرعة الزوارق في مواسم الصيد، مزروعة كما لو أن بحر الطنطورة قد غطت وجههِ طيور بيضاء[13]، وتحديدا في موسم صيد سمك السردين، الذي كان يصير كرنفالا بحريا على شواطئ الطنطورة تحتشد فيه زوارق الصيادين وشخاتيرهم قادمة من يافا وغزة جنوبا، وحيفا وعكا شمالا، كلها كانت تلتقي في الطنطورة.
للسردين في الطنطورة موسمين، وليس موسما واحدا فقط، على ما ظل يذكر أهلها. في الربيع موسم حركة قدومه ومروره بالطنطورة قادما من الأطلسي عبرمضيق جبل طارق ليصل بحر شمال تركيا لوضع بيضه هناك كما كان يعتقد صيّادو الطنطورة. ويستمر موسم صيده هذا مدة ثلاثة شهور من نيسان/ أبريل وحتى حزيران/ يونيو. فيما كان يحل الموسم الثاني في الخريف، مع عودة السردين برحلة إيابه بعد تفقيس بيضه مفرّخا صغاره، مارا بشواطئ الطنطورة، ليستمر صيده من منتصف تشرين الأول/ أكتوبر وحتى منتصف كانون الأول/ ديسمبر[14].
اعتبرت الطنطورة مجمعا للسمك وصيّاديه، إلى حد تفوقت فيه على حيفا. كما كان صيّادو القرية من أكثر صيادي الساحل احترافا في قراءة حركة السمك والمرابطة له في البحر. أما عن الصيادين القادمين من جنوب البلاد وشمالها، فقد تعودوا الإقامة في الطنطورة في مواسم الصيد، حتى أن أهالي القرية كانوا يأخذون من كل صيّاد وافد، تعريفة على كل واحد كيلوغرام من السمك، وقد بنّا الطناطرة من عائد ضريبة السمك مدرسة القرية الحديثة في أواخر الثلاثينيات[15].
تسرح زوارق وفلائك صيّادي الطنطورة مثل ملائكة في البحر. وإذا ما كانت الريح شرقية، والتي كان يهابها الصيّادون والريّاس، لأنها "ترد البحر" كما يقولون، فإن هيجان الموج كان يصل إلى حد حمل فلائك الصيّادين الشراعية قاذفا بها إلى شواطئ قبرص، على ذمة الحاج عادل العموري[16]. ومع ذلك، لم تكن الريح وجنونها تمنع أي صيّاد طنطوري من العودة سالما، والقول "الحمد لله الشختورة أوسقت"[17]، أي امتلئت بالسمك. ففي بحر الطنطورة "ياما مرت مواكب، وتكسرت فيو مراكب" كما يقول أهلها.
طنطوري يا سمك
كان سمك الطنطورة مفخرة حناجر السمّاكين في حيفا وأسواقها، وذلك كلما انبعث منها بصيّحة "سمك طنطوري يا سمك". ما إن كانت تحط مراكب صيّادي الطنطورة على شاطئ القرية، قادمة كل صباح من بطن البحر، يكون السمّاكين قد صاروا على "العُرش"، مقهى الصيّادين وملتقاهم على شاطئ الطنطورة. ليَحمل السماكون السمك على العربات، وقبل العربات في خِراج الدواب من الطنطورة إلى حيفا شمالا.
من أشهر أنواع السمك الطنطوري، غير السردين، كان "الكبّان" و "الذهبان"، وأسماك "السراغيس" بنوّعيها: "سراغيس الحدّداية، والسراغيس الصخرية"[18]. فضلا، عن "البوري" الذي قال عنه صيّادي الطنطورة: " البوري عاش طنطوري"، وذلك لأنه من المعروف أن سمك البوري، هو من أكثر أنواع السمك عيّشا واقترابا من شواطئ البحر. إضافة إلى أنواع أخرى مثل: المَلّيطة والطبّارة وغيرها. كما أطلق أهالي الطنطورة على سمك القرش اسم كلب البحر[19].
وتعتبر سمكة " الدواخير" من أجود وأكثر أنواع سمك البحر حضورا في المطبخ الطنطوري، والدواخير هو ما يُطلق عليه اليوم اسم "اللُقس"[20]. كانت إذا ما انبعثت رائحة السمك شوائا من طوابين بيوت الطنطورة ومعها رائحة روث البقر محترقا، يعرف الطناطرة أنها رائحة الدواخير.
لدى أهالي الطنطورة "الصيادية الطنطورية" الخاصة بهم، وهي عبارة عن طبق من السمك المطبوخ بالبندورة والبصل. أما الصيّادية المتعارف عليها في مطبخ أهالي ساحل جنوب فلسطين في يافا وغزة، فيُطلق عليها أهالي الطنطورة اسم " المدفونة"، وهي السمك، الذي يُدفن بعد قلّيه في الرز بلونه الأصفر ليُطبخ معه[21]، ومن هنا اسمها المدفونة.
مدفونة، ونكبة جعلت من القرية مدافن جماعية، وناجون يحملون شوقا ووجعا دفين على قريتهم التي ظلت ابنتة وفيّة للبحر حتى يومها الأخير. لقد ظلت قدمّا الطنطوري واحدة في السهل وأخرى في البحر، فقد علّمهم البحر وعلّم عليهم أكثر مما تعلم من الجبل فلسطينيو الجبال، إذ إن لدى أهل الساحل مثلٌ يقول: "الجبل للكسل والبحر للعمل".
*المراجع:
1. أبو شكر، عبد الجبار، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 16/3/2007.
2. عن ذلك راجع : تماري، سليم، الجبل ضد البحر، مواطن - المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله، 2005، ص 22-23.
3. حبيب الله، علي، نواطير الرمل - ريف الساحل الفلسطيني، مجلة فسحة الثقافية، مادة منشورة في تاريخ 13/12/2020.
4. أبو شكر، داوود، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 27/7/2008.
5. أبو شكر، عبد الجبار، المقابلة السابقة.
6. اليحيى، محمود يحيى، الطنطورة قرية دمرها الإحتلال الإسرائيلي، دار الشجرة للنشر والتوزيع، دمشق، 1998، ص 18.
7. أبو شكر، عبد الجبار، المقابلة السابقة.
8. أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة. وكذلك مقابلة: أبو شكر، عبد الجبار.
9. أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
10. العموري، عادل محمد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 26/10/2010.
11. أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
12. عن ذلك، راجع للكاتب، المادة الأولى من هذا الملف، بعنوان : الطنطورة والبحر... ذاكرة في ذمة الملح.
13. سلّام، نايف طه، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 25/5/2010.
14. المقابلة السابقة.
15. العموري، المقابلة السابقة.
16. المقابلة السابقة.
17. أبو شكر، داوود، المقابلة السابقة.
18. سلّام، المقابلة السابقة.
19. المصري، محمد العائد، مقابلة شفوية، الطنطورة، موقع فلسطين في الذاكرة، ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 24/5/2010.
20. سلّام، المقابلة السابقة.
21. أبو شكر، داوود المقابلة السابقة.

**المصدر : عرب48

1