ثمة سلطة احتلال عسكري تعلو السلطات الثلاث فى الضفة الغربية وقطاع غزة نظريا وفعليا، وبمقدورها أن تختصر تلك السلطات الثلاث وقتما وأينما شاءت، وهي تقوم بذلك عمليا بشكل دوري وممنهج منذ اليوم الأول لقيام السلطة إلى يومنا هذا؛ وسيستمر هذا النهج مستقبلا لضرب أي محاولة جادة لخلق أى نظام حكم فلسطيني؛ لأنها تدرك جيدا أهمية وخطورة البعد الحضاري للصراع والمتمثل في النموذج الحضاري للكيان السياسي لكلا الطرفين في الصراع وانعكاساته الداخلية الخطيرة على كلا طرفيه من حيث قوة وقدرة كل طرف على الصمود ومردوداته الخارجية كذلك أمام العالم على صورة كل طرف، ومدى خطورة تأثير تلك الانعكاسات فى مجريات الصراع على المدى القريب والبعيد على حد سواء.
وهنا علينا أن نتفحص الصورة القائمة حاليا لندرك هذا البعد الحضاري الخفي؛ والذي قلما يكون واضحا وظاهرا كما هو الأن وتحديدا فى اللحظة السياسية القائمة اليوم؛ فثمة برلمانان فلسطيني واسرائيلي منحلان أحدهما وهو الفلسطيني حل عن طريق السلطة القضائية؛ بعد أن بقي معطلا لقرابة 12 عام وهو عمر الانقسام الفلسطيني؛ وخلال تلك السنوات لم يدرك أعضاء هذا البرلمان المنقسمين قط أن الوقت قد حان للعودة إلى الشعب الذى منحهم تفويض برعاية مصالحه وتمثيله؛ وبرغم إدراكهم لفشلهم الذريع فى المهمة فلم يمثل هذا الخيار مخرج للأزمة فى عقليتهم المتشبثة بتلابيب السلطة؛ وحتى عند حل البرلمان لم يحدد بعد موعد لانتخابات برلمان جديد وهي مسألة تبدو إمكانية إجرائها فى مناطق الحكم الذاتي فى ظل حالة الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة مسألة غيبية إن لم تكن مستبعدة؛ وثمة شعب تحت الاحتلال يعانى من قمع وإفقارواضطهاد مزدوج من اسرائيل ومن طرفى الانقسام اللذان يسلبان إرادته السياسية حتى فى حكم نفسه ذاتيا لصالح إرادات حزبية وشخصية ذات مصالح خاصة وسط نظام سياسي متهالك يفتقد إلى أدنى حدود الحكم الرشيد فى مسائلة المحكوم للحاكم؛ علاوة على افتقاره لمبدأ فصل السلطات فى ظل حالة انقسام سياسى يوشك أن يتحول إلى انفصال يخيم على شعب يفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة الآدمية.
فما انعكاسات ذلك على الصراع فلسطينيا؟ والجواب واضح ويعرفه كل فلسطينى منفردا فى غياب أى نوع من الارادة الشعبية الجمعية فليس أمام الفلسطينيين إلا حياة العبودية أو الرحيل وترك الأرض لصاحب النموذج الأصلح؛ أو أن يقوم بمحاولة تحرر فردى من تلك العبودية ليسطر اسمه فى قوافل الشهداء ضمن سجلاتنا شعبنا المكدسة منذ النكبة.
وعلى الطرف الآخر ثمة برلمان اسرائيلى منحل؛ ولكن أحد لم يحله فهو من حل نفسه بإرادته وبأغلبية أعضائه عن طريق الاتفاق بين الكتل البرلمانية فيه؛ والتى استشعرت عدم قدرتها على التوافق لأداء مهمتها الموكل لها من الشعب فى حكم البلاد ورعاية مصالح الشعب؛ وهنا لم يعد أمامها من خيار إلا العودة مجددا للموكل أى الشعب عبر الانتخابات، وهكذا نحن أمام برلمان سيد نفسه؛ فليس ثمة سلطة بمقدورها أن تعلو فوق سلطة البرلمان لأنه يمثل سلطة الشعب وهي التى أوصلت نوابه بإرادة الشعب إلى مقاعده؛ وهى نفس الارادة التى ستجلب نواب أخرين فى شهر إبريل نيسان القادم لإجراء الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية.
إننا أمام منظومة حكم مقننة ورشيدة وديمقراطية تكفل فصل السلطات؛ فكل سلطة تعرف حدودها وصلاحياتها بدقة تمنع التضاد وتمنح التوافق؛ منظومة حكم جوهرها المواطن اليهودى الاسرائيلي بالأساس؛ فإرادته واحده هي الإرادة التى تتحكم فى حياته؛ وهى الارادة التى يحق لها تقرير المصير فى إسرائيل طبقا لقانون القومية الأخير؛ وذلك بالرغم من أن تلك الارادة عنصرية وفاشية تصر على إلغاء هوية الآخر الغير اليهودىفى الدولة؛ وتُصر على استمرار احتلال شعب آخر ومنعه من تقرير مصيره ونيل حريته؛ ومع ذلك انعكاس ذلك اسرائيليا على الصراع مع الفلسطينيين كان واضحا مزيد من القوة والازدهار للدولة الاسرائيلية ولتلك الارادة الصهيونية؛ ومزيد من تثبيت اليهود على أرض فلسطين؛ ومزيد من المهاجرين اليهود الجدد ليلتحقوا بالأرض التى يفرض فيها ما يسمى بالشعب اليهودى إرادته عليها ومزيد من الاحتلال والاستيطان والقمع للفلسطينيين .
أما عن الانعكاسات الخارجية للحظة السياسية الراهنة على الصراع فتكمن فى وجهة نظر العالم في كلا النموذجين في المشهد القائم؛ وفى أسئلة بديهية يطرحها العالم للمقارنة بين النموذجين أولها ماذا يمكن لدولة فلسطينية بهذا النموذج سالف الذكر أن تضيف لمسيرة الحضارة الإنسانية؟ وهل دولة بهذا النموذج من الحكم القائم بمقدورها أن تضيف شئ أم أنها ستكون عبئ سياسي واقتصاديا عليه وعلى السلم والأمن الإقليمي؟
وتلك الأسئلة ربما كانت أحد أهم الدوافع التى عجلت بتبكير الانتخابات الاسرائيلية فى مزامنة عجيبة لم تتجاوز الأسبوع بين حل البرلمانيين؛ ليرى العالم وبشكل عملي خطورة وعبثية تطبيق حل الدولتين ويقتنع العالم أن الوقت لم يحن بعد لمنح أولئك الفلسطينيين دولة؛ وأنه من الأفضل للعالم أن يساعد الادارة الأمريكية فى تطبيق صفقة القرن التى ستمنحهم كيانا أكثر من حكم ذاتى وأقل من دولة فهذا ما يستحقونه طبقا لوجهة نظر إسرائيل. والسؤال الأخطر والذى ينبغي على كل فلسطيني أن يسأله ما هى انعكاسات هذا المشهد على عدالة القضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني فى نظر العالم؟
لقد أعطى العالم إجابة ضمنية عن هذا السؤال قبل أسبوع عندما صوت بالأغلبية على مشروع قرار فى الجمعية العامة بتجريم حركة حماس؛ ولولا إقرار غالبية الثلثين لتمرير القرار الذى حظي بتأييد 87 دولة فيما عارضته 57 دولة وأمتنعت 33 عن التصويت لمر القرار؛ وهكذا أدينت حركة حماس ومن وراءها النضال الفلسطينى برمته بقرار أممي من الجمعية العامة.
نهاية القول إننا نحن الفلسطينيون بواقعنا السياسي القائم أصبحنا القاطرة التى تجر قطار صفقة القرن لتصل إلى محطتها الأخيرة والتى عنوانها تصفية القضية الفلسطينية .. ولا عزاء لأحد.
حل المجلس التشريعى الفلسطينى والكنيست الاسرائيلى .. لحظة سياسية كاشفة لأهم أبعاد الصراع!!
بقلم : د. عبير عبد الرحمن ثابت ... 29.12.2018