لم يكن يعلم صائد الحمام، الذي يعيش هو وأمه في كوخ طيني على أطراف قرية، بما تهوي به السماء اليهما من طير، بأن سربا كاملا اشتبك بمصيدته.
اعتاد أن يجر أصوات خطواته عند الفجر إلى حيث نصب مصيدته، يلتقط ما التصق فيها من طيور ثم يعود إلى أمه، يرتاح في الكوخ لتذهب هي إلى سوق القرية تبيع وتقايض ما صاده. وحين دخل عليها في ذلك الصباح ورأت الحمولة الثقيلة بين يديه، سطعت في ذهنها الفكرة التي ستحول حياتهما إلى حال آخر.
- لماذا لا تذهب يا بني، بحمولتك الوافرة هذه إلى الوالي، وتقدمها هدية له ،بدل أن نبقيها عندنا فلا نستطيع بيعها كلها، لعله سيجود عليك بشيء يعينك في حياتك، أو يجد لك عملا قربه.
لم يحدث من قبل أن احتشد في مصيدته سرب كامل، حتى أن الصياد احتار في إيجاد وعاء يحملها فيه، بدل وعاء العادة الصغير الذي كان يؤرجحه بين يديه متقد الذهن في طريقة الصخري القاحل.
عرّج على أحد البيوت القريبة وقايض أهله بأربعة طيور مقابل وعاء ضخم.
ويقدر أحيانا أن يجد في مصيدته طيرا جارحا وقد تخافقت أوردته من التعب، فيطلق سراحه، ليعود خائبا إلى الكوخ فتصطدم عيناه المنكسرتان بوجه أمه.
وكان يضع مصيدته عند العصر ويعود لجني محصولها في الصباح، بعد أن يغادر فجرا الكوخ الذي يسكن فيه بصحبة والدته، متسلقا الصخور إلى أن يصل أعلى قمة في الجبل حيث وضع شبكة فاغرة وكأنما بتضرع في وجه السماء المديدة.
وحين وصل إلى قلعة الوالي، بعد مسافة قطعها فوق ظهر أحد حمير الأجرة التي تقف متراصة في سوق القرية، لم يدعه حرس الوالي يدخل، وأشاروا عليه بالانتظار لأن طابورا مبعثرا من الناس قد سبقه.
وحين خرج الوالي لصلاة العصر وبرفقته ثلة من الجند، وثب الصياد ناحيته وإناء ثقيل يميل فوق كتفيه، فكشف الوالي غطاء الإناء واقفا ثم أشار إلى أحد حرسه بأن يذهب به إلى مطبخه ليوضع في مائدة العشاء وودعه بتحية عابرة وأكمل طريقه إلى الصلاة، وحين رجع الوالي لم يلتفت إلى الصياد الجالس بانتظاره.
وبعد أن جن الظلام أمر حراس القلعة صياد الحمام بالانصراف.
رجع الصياد إلى كوخه في عمق الليل واستلقى بعينين مفتوحتين، وفي الصباح هبّت أمه إلى تاجر بالمدينة وارتهنت منه حلة ثمينة بعد أن تركت كل فضتها عنده واقترحت على ابنها أن يدخل على الوالي في جنح الليل وكأنه رسول عاجل من الحاكم، ويطلب منه خمسمائة قرش ثم يترك له رسالة على باب القلعة ويختفي.
وحين فتح الوالي الرسالة في طريقه إلى صلاة الفجر، وجد مكتوبا عليها: (هذا من فعل صياد الحمام والعاقبة أشد).
دارت ذاكرة الوالي بحثا عن صورة الصياد، وحين استقرت في ذهنه أمر معاونيه بالبحث عنه، فحملوا أسلحتهم في طرقات القرى، يسألون كل عابر عن صياد للحمام، فانتشر خبرهم، وحين اقتربوا من قرية الصياد، سألوا عجوزا كانت تلهب موقدا على مدخل القرية، عن الشاب. فأجابتهم بأن الصياد ينصب خيمة على أطراف القرية، ولكنه إذا رأى أسلحتهم فإنه سيهرب مبتعدا، ولن يستطيعوا اللحاق به، وأشارت عليهم أن يتركوا أسلحتهم وعتادهم عندها وحين يعودون يكون ما في قدرها قد نضج.
بحثوا في المكان الذي أشارت إليه العجوز ولم يجدوا أحدا، وحين رجعوا إلى حيث الموقد، وجدوا قدرا مليئا ولم يروا فيه إلا كسر الحصى وهي تفور متراقصة أمام أعينهم الجائعة، كما وجدوا رسالة كتب عليها: (هذا من فعل صياد الحمام والعاقبة أشد).
وحين عادوا بأيديهم العارية إلى الولي أمر بحبسهم.
ثم جمع الوالي ثلة من الحكماء، وطلب منهم أن ينتشروا للبحث عن الصياد، وقبل أن يدخلوا مسجدا كان الصياد في إثرهم. توزعوا في الغرف الطينية التي تجري ساقية الفلج من تحتها، علقوا ملابسهم أعلى الجدران، فسحبها الصياد وعلق مكان إحداها رسالة كتب عليها :( هذا من فعل صياد الحمام والعاقبة أشد).
انتظر المستحمون هجوم الظلام حتى خرجوا فارين في أطراف الأودية وقد غطوا عوراتهم بأيديهم.
وحين استعان الوالي بالمنجمين، اقترحوا عليه أن يطلق جملا من الجمال المعروفة في قلعته والمكان الذي سيبرك أمامه الجمل لن يكون إلا بيت الصياد.
وعندما رأى الصياد الجمل منطلقا أوقفه وأجلسه على الكثير من البيوت ثم نحره في ظهر الوادي وترك بجانب عظامه رسالة كتب عليها: (هذا من فعل صياد الحمام والعاقبة أشد).
أعلن الوالي بين الناس، حين أعياه الأرق وهده الخوف من عاقبة الصياد، بأنه سيعفي عنه ويجازيه إذا أظهر نفسه. وحين جاء الصياد إلى القلعة استقبله الوالي واقفا أمامه، ثم أجلسه بجانبه وسأله لماذا فعلت بنا هذا أيها الصياد؟
فأجابه:
- أيها الوالي، لقد جازيت تعبي ومشقة سفري وتقديمك على أهلي ونفسي بأن ركنتني بدون سلام أو مقام وأنت تعلم حال أمثالي وأنهم ما يفعلون ما فعلته عن فيض زاد ورخاء حال، إنما طلبا لكرمك وتقربا من جودك، فرجعت من عندك منكسر البال، ترف الدمعة من عيني، ويمور الحقد في صدري، فلم أحتمله حتى تقيأته على النحو الذي رأيت، ولم يشق عليّ أخذ قروشك حتى تندرت على أعوانك وعريت حكمائك ونحرت ناقتك وكنت ماضيا فيما عزمت حتى أعلنت إعلانك، فما ضرك لو مسحت راحتك بكفي، ووضعت فيها نقطة مما أبحر الله عليك، أمني بها فاقتي وتعينني على بيتي.
سال ذلك الكلام كالنغم في أذن الولي، فأمر له بكسوة وركيبة وقربه من قلعته.
قصة من التراث العماني.. المطاردة!!
بقلم : محمود الرحبي ... 14.09.2013