جحيم موجة الحر التي إجتاحت المجر في الايام الماضية كان من الشدة بحيث قلب برنامج حياتي اليومية رأسا على عقب .. التمشي على كورنيش الدانوب جعلته قبيل منتصف الليل .. بدل السادسة مساء ..حيث هبات النسيم لم تكن تنشط على استحياء الا في ذلك الحين !واضافة الى ذلك القيظ اللاهب كانت هناك نشرات الاخبار التي تحمل أخبار الوطن الحبيب الصغير والكبيــــر ..فمن سعار المستعمرين في الضفة ومعاناة اهل القطاع ومآسي مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان الى مأساة اهانة كرامة الشعب السوري و اللاجئين السوريين الى دزينات من السيارات المفخخة في ارض السواد ارض النخيل والخصب التي حولها الاحتلال ورجالاته الفاسدون الاشاوس الى ارض الموت !! و بحثت عن ملاذ الوذ به ..وشاء الله ان احسن الاختيار .. اعدت قـــراءة الكتاب الرائع " تاريــــخ الدولة الفاطميـــــــة في المغرب ومصــر وسوريـــــا وبلاد العرب " تأليف الدكتور حسن ابراهيم حسن الطبعة الثالثة الصادرة عام 1964 .. ذلك المرجع الموسوعي 740 صفحة غالبيتها بأصغر بنط وقد سبق لي تناول يعض جوانب هذا المرجع الهام اما اليوم فسأقتصر على تناول مادة تتعلق بأديب عراقي شاعر فقيه وعالم متميز تحدث عنه ابو بكر البغدادي وياقوت الحموي وابن خلكان بل ان أبا العلاء المعري استضافه وكنب فيه شعرا جميــــلا ...نعم ابو العلاء المعري الذي اطاحت جبهة النصرة برأس تمثاله ظنا منها بأنه جد بشار الاســد ..واتوقف قليلا لأنفذ تعليمات المرحوم مكسيم جوركي ..ومقولته " اتفو " واعود لمتابعة الحديث. باديء ذي بدء يتحتم التنويه بجملة يسجلها الكاتب للفاطميين صغيرة المبنى كبيرة ونبيلة المعنى " بلاط الفاطمييــــن كان يرحب بمن يفد عليه من الشعراء النابهيــن ، سنيين كانوا او شيعييـــن ".. وهو امر لو تمعنه دعاة الطائفية في ايامنا لتوقفوا عن عن اصدار الفتاوى الدمويه البفيضة ..علما بأن ذلك كان السائد قبل الف عام واكثـــــر ..ولم نسمع عن فقيه او متفقه يصدر فتوى تبارك غزو الصليبيين لبيت المقدس كذاك الذي افتى بحلال تدمير الناتو لليبيـــــا ....فمن هو الشاعر الاديب الفقيه البغدادي موضوع هذا التناول ؟؟
انه عبدالوهاب بن نصر المالكـــــي ويذكر الكتاب ان ابا بكر البغدادي في كتابه " تاريـــــــــخ بغـــــــــــــداد" قال عنه انه كان من كبار الشعراء " وانه لم يلق من الما لكيين احدا افقه منه" وهو ماكرره عنه ابن خلكان والكتبــــي الخ الرجل قرر شد الرحال الى القاهرة بعد ان عانى ماعانى من الشدةو العسر وشظف العيش والمسغبة من نابذته بغداد عصر الانحطاط والجهل .. ويسجل المرجع ماكتبه ياقوت الحموي " في اليوم الذي رحل فيه ابن نصر المالكي عن بغداد ، خـرج كبــــــــــــــــار رجالاتهــــــــــــــا يودعونـه !!!!، فقال هذا الفقيه والشاعر الكبيـــر ، معبرا عما كان يشعر به من الم الفراق ، انه مافارق هذه المدينه " عن كره لها ، بل لأن الارزاق فيها لم تساعفــــــــه .. مضيفا " لـــــــــو وجـــــــــــــدت بين ظهــــرانيكـــــــــــم رغيفيـــــــــــن كل غـــــــــــداة وعشيـــــــــــة ، ماعدلــــت عن بلدكــــــــــم لبلوغ امنيـــــــــــــــة " هكـــــــــــذا قــرأت هذه السطور وارتسمت في مخيلتي صورة كبـــــــــار الرجالات هؤلاء رجال المال والاعمال الخ وشعرت بالتقزز وانا اقرأ الكلمات التالية التي اوردها المؤلف الرائع بعد ان تقصى اثرها ليسجلها " ولقد اصاب ابن بســّـام حيث يقول هذه الكلمات التي تنطوي على غاية الاحتقار :" والخبـــز يومئذ كل ثلثمائة رطل بدينــــار . وهذا في غاية الذم لهم لأنه اراد أن يخبرهم بسقوط همتهــــــــــــــــم وخســـــــــــــــة نفوسهــــــــــــــم " .. وجدوا في نفوسهم من الجرأة والصفاقة الحافز للخروج والظهور في مشهد وداع رجل عظيم ولم تشر المراجع الى مجرد وجود فرد واحد منهم حملته بقية مروءة او ذرة رجولة ان يدعوه للبقاء او ينفحه مايعينه على قطع ذلك الطريق الطويل بين بغداد التي اهانوها بمهانتهم وعبادتهم للمال وامتلكوا فيها القصور والجواري والغلمان و الخانات والحانات وحتى الكرخانات...
وبين قاهرة المعـــــــز التي اضطره الحال للتوجه اليها .. وهكذا انطلق ابن نصـــــر من بغداد التي احبها ووصف في أشعار حبه لها وحنينه اليها اوضاعها واسمعوا قوله
بغــــــــــــــداد دار لأهل المال طيبــــــــــة وللمفاليـــــس دار الضنــــــك والضيــــــــــــــق
أصبحـــت ُ فيها مــُـضــــــــاعا بين أظهرهـــــــم كأنني مصحـــــــــف في بيت زنــديـــــــــــق !!!
وقد يقول قائل ماأشبه الليلة بالبارحة فأقول له صدقت ورب الكعبة !!
وفي الطريق الطويل الى مصر توقف في معرة النعمان فأضافه عنده حبيس الدارين العبقري الخالد ابو العلاء المعري
وفي وقت لاحق عندما وجه ابو العلاء المعري قصيدة الى خازن دار العلم ببغداد استذكر تلك الزيارة قائلا " والمالكــيّ ابن نصر زار في سفــــــر بلادنــــا فحمدنا النــــأي والسفــــــــرا
إذا تفقّـــــه أحيا مالكـــــا جـــــدلا وينشر الملكُ الضلّـيلّ إن شعـــــــــــــرا
ولا اعتقد ان امرءا نال مثل ذلك المديح في تاريخ العرب كله .. مالك في الفقه والملك الضليل في الشعر ولا انتقص من معارف القاريء العزيز اذا ماأقدمت على ماأقدم عليه مؤلف الكتاب في حاشية مستقلة " الملك الضــّـليّل لقب لأمرىء القيس الذي عـدّه النبي صلعم أشعر الشعـــــراء!!ويطرح السؤال نفسه بنفسه هذا كلام كبير من شاعر عبقري في شاعر وفقيه كبير لم يجد لفمة يزدردها مع علقم المرارة في بغداد .. فماذا قيل في كبارات رجالات بغداد الفطط السمان المتخمة بالمال الحرام مال الرشوة والتدليس والسرقة والسوق السوداء..لاشيء قططا سمانا كانوا ونفقوا .. ويبقى ذكر ابن نصر وذكراه صفعة على وجوههم وبصقة على سلوكهم
الوصول الـــــى الغايــــــــــــــة فاهرة المعــــز في دار الكنانـــــة
!!!على الصفحة 448 يتحدث الكتاب عن وصول ابن نصر و عن استقباله فيها احسن استقبـــــال ويفســـــح المجال لابن خلكان الذي وصف ذلك ببراعة نادرة " فحمــــــل لواءها ، ومـــلأ أرضها وسماءهـــــا، واستـتبــــع ساداتهـــــا وكبــــراءهـــــا ، وتنــــاهت اليه الغـــــرائب وانثالــــــــــت في يديه الرغــائـــــب!!!! كان وصول ابن نصـــــر سنة 1030 ميلادية 422 هجرية في خلافة الظاهر الذي خلف اباه الحاكم بأمر الله ، وذلك موضوع سبق تناوله ،.. وفي ذات السنة بل ذات الشهر كانت النهاية .. رائعة ومريعة في مأساويتها.تدلل على ذرى عظمـــــــــة وصبــــــــر ومعـــــاناة الرجـــــــــــــل وعلى الدرك والحضيض الذي كان فيه رجــــــــــــالات المال والاعمــــــــال في بغــــــــــــــداد القطط السمان الجاهلة الغبية المتخمة بالمال والمفتقدة لأدنى حد من الفهم والتقدير لمكانة وسمو ابن نصـــــر
ويضطلع ابن حلكان بمهمة بيان سبب او سر موت ابن نصـــــر
" ماكـــــــــــــاد يصل مصـــــــــــر حتى مات من اكلة اشتهـــــــــــــاهــــــــــــــا وقال وهو على فراش الموت لاإله الا الله ، إذا عشنــــــــــــا متنــــــــــــــــا
واجد لزاما علـــي ان ألجأ الى مقاربة او مقارنة قد تبدو للوهلة الاولى غريبة وماهي بالغريبة .. في دراسة لي لم تنشر بعد عن المستنقع الاثني والعنصري في اوروبا ماقبل وخلال وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وأثره الملموس في فلسطين والمتواصل حتى اليوم تابعت ووثقت حقيقة ان سجناءمعسكرات الاعتقال بمجرد تحريرهم اخذوا بعد اعوام التجويع والمعاناة يلتهمون كميات كبيرة من الطعام وسرعان ما خروا ميتين بالعشرات والمئات الى ان تم الانتباه لتلك الظاهرة ..وطلب اليهم عدم الافراط في ذلك تجنبا للموت والهلاك المحتوم. ابن نصــــــر الفقيه الاكبر والشاعر السباق كان محروما من ميسور المطاعم ناهيك عن لذائذها .. فكان مصيــــــــــره مصيـــــــــــــــــر محرري المعتقـــــــــــــلات النازيــــــــــــــــة ....واشعر بمنتهى راحة الضمير وانا اسجل خلاصة هذه المقارنة او المقاربة .. واقول للقطط السمان المتخمة بالمال وبالغبـــــــــــاء والتي تفضل مايسمون بأهل الثقة وهم على شاكلتها على أهل العلم والخبرة .الى جهنم انتم ومالكم المسروق وحاشيتكم التي تبزكم غبـــاء وتضاهيكم جهلا
ابن نصر وسيرته تبقى حية نضـــرة عطــــــــــرة مابقي الدهــــــر اما القطط السمان فتظلّ نسيـــــا منسيــــــــــــــــــا تذروها الرياح فوق مزابل التاريخ
عبدالحميــد الدكاكنـــــــــــــــــــــي
بودابســــــت 11 أغسطس آب 2013 !
رحلة على اجنحة الشعر بين بغـداد والقاهــرة !!
بقلم : عبدالحميد الدكاكني ... 11.08.2013