العصافير التي اصطادتها ميسون أسدي من على كرسيها داخل المقهى!
صباح اليوم، انتهيت من قراءة القصة الأخيرة من المجموعة القصية الجديدة "حكاوي المقاهي" والتي ابتدأتها ليلة أمس، فما أن نهضت من نومي حتى قررت احتساء فنجان قهوة وأنا اجلس على شرفتي واقرأ القصة الأخيرة من هذه المجموعة."حكاوي المقاهي" أو "كرسي في مقهى" هو الكتاب الجديد للكاتبة ميسون أسدي وهو كتاب ممتع جدا لا تستطيع أن تتركه إلا بعد الانتهاء منه.. فمن خلال هذه المجموعة تمكنت أسدي من اصطياد عدة عصافير بحجر واحد!
العصفور الأول:
استعملت الأسدي تقنية ليست بجديدة، لكنها متجددة، حيث رصدت العديد من القصص من زاوية واحدة ثابتة في إحدى مقاهي حيفا العريقة، مختلقة شخصية أسمتها "زبيدة"، ولا اعرف إذا كانت هذه الشخصية قائمة أم هي شخصية وهمية أو أن الكاتبة نفسها هي زبيدة، وفي الحالتين، كسبت أسدي نقطتين لصالحها، فإذا كانت هي نفسها البطلة، فقد استطاعت خلق شخصية لا تشبهها من حيث عملها اليومي ولاءمتها تماما لما رأته في المقهى، هذا إذا كانت قد رأته بالفعل، فمن الواضح أن هناك بعض القصص هي محض خيال ولكنها تلامس الحقيقة. وإذا لم تكن هي نفسها والشخصية هي مجرد خيال، فبإمكاننا أن نفترض بأن جميع القصص مختلقة، وهذه هي النقطة الثانية التي اكتسبتها.. أضف إلى ذلك، طريقة بداياتها والسبب الذي حض البطلة على الكتابة، أو قرارها في أن تكتب على لسان بطلتها، وهو قرار مبتكر وجذاب ومقنع، ثم قرارها في نهاية المجموعة- التوقف عن الكتابة- وهنا، أنا اختلف مع الكاتبة، فالقرار لم يكن مقنعا حتى النهاية ولا استطيع لومها، فالقرار جاء على لسان بطلتها وليس على لسانها، وعدم اقتناعي جاء ربما من رغبتي الشديدة في قراءة المزيد من القصص في ذلك المقهى. وأصارحكم القول، بأنني قررت أن اذهب إلى نفس المقهى- إذا سنحت لي الفرصة- وهو كما قالوا لي موجود بالفعل كما وصفته الكاتبة.. لعلني ألتقي بأحد الأبطال أو اصطاد قصة جديدة لنفسي!!
العصفور الثاني:
استطاعت الكاتبة أن تظهر العديد من الصور الحقيقية تماما من مدينة حيفا والتي يراها المواطن العادي يوميا، ولكنه لا يلتفت إليها، وهي بعينها الثاقبة مستعينة بخيالها استطاعت أن ترسم هذه الصور بسلاسة ممتعة، تشد القارئ حتى آخر كلمة، وسنأتي على هذه الصور فيما بعد.. ولم تكتفي الكاتبة بصور حيفا، بل إنها استعرضت شخصيات وحالات تخص أهل هذه المدينة بكل طبقاتها، وقد اختارت مقهاها بالذات لتستطيع أن ترصد هذه الحالات وهؤلاء الناس، وقد نجحت بذلك بامتياز، فمن يعرف حيفا وشخوصها وأهلها ولاجئيها، يستطيع أن يتعرف على شخصيات المجموعة بكل سهولة، ومن لا يعرف، يزداد معرفة بهم.
العصفور الثالث:
هو الإهداء، الذي استهل الكتاب، وجاء فيه: "إلى الذين استعبدتهم الحياة وأدمنوا على العبودية ونسوا قيمة وطعم الحرية. أهدي هذه الحكاوي التي اقتنصتها من عبوديتي اليومية. ولملمتها في ساعة من الحرية".
فالكاتبة هنا، تخاطب جميع القراء، دون استثناء، فمن منا لم يفقد حريته بشكل أو بآخر وهي أغلى ما يملكه الإنسان.
العصفور الرابع:
وهو ليس عصفور واحد، بل سرب من العصافير يضم خمسة عشر قصة وفي كل قصة نكتشف مدى رحابة أفق الكاتبة وعمقها وبساطتها في آن واحد.. كما أننا نغوص في القصص المبتكرة والتي تمرر خلالها بسلاسة ومتعة متناهية أجمل الأفكار.
القصة الأولى- بعنوان "واحد قهوة وتنين سكر وواحد ساعة من الحرية"، تذكرني هذه الجملة بالمقاهي المصرية وكيف ينادي العاملين فيها على طلبية الزبون بصوت عال أمام الجميع.. وربما استعملت الكاتبة هذه المناداة لتكون صرخة يسمعها الجميع وقد قالت في البداية "لا أحد يعرف قيمة الحرية إلا الذي يفقدها".. إذا فهي صرخة استغاثة من شخص غرق في بحر العبودية.
الجميل في هذه القصة أنها تحولت لمقدمة الكتاب، وهي مقدمة مبتكرة حسب رأيي، حيث نفهم من خلالها لماذا جاءت جميع القصص التي تلتها.
القصة الثانية- "العنوان والمكتوب" وهو تلاعب بالكلام، يقصد منه أمثل الشائع "المكتوب يقرأ من عنوانه" وفي هذه القصة نبدأ بالتعرف على المقهى، من حيث موقعه والعاملين فيه وبعض رواده، وتتعرض للامبالاة التي تسيطر على مجتمع هذه البلاد تجاه الكوارث الاقتصادية التي تصيبهم يوميا.
القصة الثالثة- "الدون جوان يترجل عن حصانه"، تعجبني جدا عناوين هذه الكاتبة، والأمر ليس بجديد، فقد قرأت لها معظم قصصها القصيرة السابقة، ولمست فيها مبتكرة لعناوين ذكية وهذا واحد من عناوينها الجميلة، فهنا استبدلت كلمت فارس بالدون جوان، وكلاهما يخوضان المعارك، هذا في ساحة الوغى وذاك في ساحة الهوى، وهنا وهناك توجد خسارة وربح.. وفي النهاية يترجلان ويتوقفان عن المعارك.
القصة الرابعة- "كلنا في الهوا سوا"، لولا أنني أعرف أسلوب الكاتبة وطريقتها المعهودة بمفاجأة القارئ، لما توقعت أبدا أن أقرأ ما قرأت بعد هذا العنوان.. فهنا تتحدث الكاتبة عن بنات الهوى المنتشرات في مدينة حيفا منذ عهود قديمة، ولم يفاجئني تعاطفها مع المومسات، لكن المفاجأة هي أنها بدأت القصة في ذلك العنوان والذي يقول بوضوح بأننا جميعا بنات هوى!!
القصة الخامسة- "وجبة من الخوف والجرأة والحياء"، تعود الكاتبة بهذا العنوان لتذكرنا أننا ما زلنا داخل المقهى، وهنا تستمر ميسون في تعريفنا على الشرائح الحيفاوية، فبعد أن تعرفنا على صائدي الفتيات وبنات الهوى، ها هي تعرفنا على القبضايات، وتكشف لنا خبايا لم نكن لنعرفها عنهم كوننا نرى أفعالهم والتي لا تعكس أبدا أفكارهم- كالخجل مثلا!
القصة السادسة- "اقترحت على الزبال مهمة صعبة"، يبدو العنوان كأنه جملة مقطوعة.. وهو أمر جميل ولا بأس به وليس غريب على الكاتبة.. وفي هذه القصة تتعرض الكاتبة للمسحوقين والكادحين وهم كثر في مدينة حيفا التي ما زالت تسمى بالمدينة العمالية، وتستعرض بعض فلسفات الحياة على لسان أبسط الناس.. مثل الطفل في القصة.
القصة السابعة- "كلام الكراسي بين الفرح والمآسي"، قصة طريفة مثل عنوانها الطريف والمسجوع، وفي هذه القصة لا تخفي الكاتبة أنها تختلق القصص ولا تراها بالفعل، ونلاحظ أنها ترى أشياء لا يراها الإنسان العادي.. وكل ذلك من خلال كراسي المقهى الذي تجلس فيه يوميا!
القصة الثامنة- "عن النساء والبكاء"، وهنا تؤكد جملة الفنان العالمي "بوب مارلي"، وهي أن جميع النسوة يبكون، لكنها تصرخ في وجه بطلة القصة بعد أن استفزها بكائها بان ترفض الواقع الذي وجدت فيه، وكأنها تخاطب نفسها تعبيرا عن الشعور بالنقص لديها!!
القصة التاسعة- "الله يرحمني وسلامة رأسكم"، قصة طريفة ولكنها ليست مبتكرة، فقد قرأت من قبل كتاب ينعون أنفسهم بعدة طرق، وعلى رأسهم الكاتب السوري حنا مينا، آملين مثل الجميع أن يعرفوا ماذا سيجري بعد موتهم.
القصة العاشرة- "هيا نشرب نخب الحياة" قصة أخرى طريفة، وتتحدث فيها عن أهمية المياه في بلد يعاني من نقص المياه بشكل دائم، ومن خلالها نتعرف على أمور جديدة بالنسبة للمياه.
القصة الحادية عشر- "ناري نارين" عنوان مأخوذ من الأغاني الشعبية الدارجة.. هنا تتحدث عن معاناة الموظفات أمثال بطلة المجموعة والتي تروي القصص على لسانها، وكأن الكاتبة أرادت أن تقول لنا إن هذه الشخصية حقيقية وليست من بنات أفكارها.. لكن الأمر بذي بال، فقد أحببنا البطلة إن كانت حقيقية أم خيالية.
القصة الثانية عشر- "الهرب من حفرة الوحدة والوقوع في فخ الحرية"، نلاحظ أن الكاتبة تستعين مرارا بالأمثال الشعبية وتعمل على تحريفها لتلاؤمها حسب قصصها، وغالبا ما تكون موفقة في ذلك.. وفي هذه القصة نتعرف نحن أبناء القرى العربية على الأجواء التي تسود مدينة حيفا المختلطة في "يوم الغفران"، وتعود بنا إلى الوراء لنتذكر ألعاب الطفولة المنقرضة.
القصة الثالثة عشر- "إبريق الزيت"، قصة ظريفة تشبه إلى حد كبير قصص الكاتب اللبناني "سلامة الراسي".
القصة الرابعة عشر- "نزهة القطة بين المقهى والمحطة"، تعود الكاتبة في هذه القصة لتذكرنا بأهمية الحرية للإنسان، مستعينة بالقطة، وهي إحدى الحيوانات التي ما زالت تحتفظ ببعض وحشيتها وتتصرف على هواها.
القصة الأخيرة- "وأخيرا وصلت الرسالة"، تحتال الكاتبة بهذه القصة علينا، لتجد طريقة بالكف وعدم الاستمرار بالكتابة، وبأنها نادمة على كل ما كتبته.. طبعا يأتي هذا على لسان بطلتها وليس على لسانها. لكن النتيجة واحدة وهي أن المجموعة تقف عند هذه النقطة.
حول كتاب "حكاوي المقاهي"..لميسون اسدي!!
بقلم : خليل سمعان ... 06.07.2013