(شيزوفرينيا)
يبدأ السيناريو إذا صفعتك المرآة، وفضحت حقيقتك بأنك منافق وأنك إذ تطالب بإلغاء الاحتلال فإنك أيضاً لا تخلو من أطماع استعمارية، جعلتك تفيض عن حدود جسدك لتحتلّ مناطق مجاورة في المحيط.. كما أنك إذ توهم نفسك بالارتقاء عن غرائزك سلّمت نفسك لنهم الشوكولا حتى ازددت مقاساً وخمسة كيلو غرامات أو أكثر..يغدو المشي والجري ملاذا لا خيارا ما دام البديل الوحيد أن تعود لشراهة التدخين الذي أدمنته أيام اكتئابك والذي ما زلت أصلاً تسعى للتحرر منه..
2
تحلم بغد أجمل فيسرقك الحلم بأنك إذا مارست رياضة المشي وتعافيت واسترجعت قدراتك الرياضية ورشاقتك ولياقتك قد تتمكن يوماً من المشاركة في الماراتون مثلاً، حين تبلغ السبعين.. ربّما يومها لو كرّموك كعجوزٍ يتحدى الشيخوخة، سيراوغك ألزهايمر فتظنّه تكريماً أدبياً لكتابك الذي صدر وخذلك الموزّع النصّاب، وأخفى أصدقاؤك المقربون النُّسَخ الموقعة يوم أخذوها بحجّة إيصالها إلى قرّاءٍ معيّنين.. كما أفسدوا بذرائع أخرى حفلَ تكريمك.. مرّت سنواتٌ قبل أن يعترف أصدقاؤك بما فعلوا..
ما أبشع ألزهايمر إذا أنساك الجمالَ القريب ولم يمحُ كلَّ الطعنات البعيدة..
3
أنا ورفيقتي والفجرُ والمطر الرذاذ، ونشورُ الطبيعة بعد هدأة الليل، في مدينة كرميئيل، وكلابٌ كثيرةٌ مع أصحابها تتمشّى.. بمزاحٍ يغمره الجدّ تهامسني: ‘ألا تخافين الدخول بحجابكِ هنا؟ ماذا لو أنّ أحد اليهود العنصريين اعتدى علينا؟’ .- ولكني أخاف ذاك السائقَ العربيّ أكثر ـ أقول – .. لا ريب يشكّك في أخلاق امرأتين تخرجان فجراً للتمشّي في ‘كرميئيل’.. شرف العائلة أو شرف الشعب يتعلق بنا لديه الآن، ناسياً أن الشرف الحقيقيّ للأمة اغتُصب منذ عقودٍ وما زال.. ولا يغفر لنا عنده أنّ شوارع قريتنا أشبه بحفَرٍ وعريّةٍ تتصل ببعضها بقطع شوارعَ مشرذمة بينها، وأنّ المشي إن كان يحتاج طبيعةً ريفيّةً وأشجاراً وعصافير، فإنها باتت نادرةً حدّ الاستحالة، في قريتنا التي تحوّلت إلى أبنيةٍ متراصّة من الباطون المطلق متكوّمةٍ فوق بعضها.. يعلو ضجيج جدالنا حول حامل المسؤولية : دولةٌ حاصرتهم بمنع ترخيص البناء وخنقتهم بمسطّح يتكاثرون فيه كعلب كبريتٍ تفور، أم وعيُ أهالٍ لم يتركوا شبراً من التراب إلا وصبّوه باطوناً حتى بِتنا نحتاج أن نسافر للمدينة اليهودية كي نرى غصنَ داليةٍ يلوح على جدار بيت، أو شجرةَ رمّان تزهر عند عتبة شبّاك، أو حتى تينةً تتشامخ ذات مدخل؟
4
بين أفخر البيوت والعمارات في حيّ رابين الراقي، في مدينة كرميئيل تتسلل إلى أسماعنا أصوات الصفيح وألواح الزينكو، تطقطق مرحّبةً بالقادمين، بكرمٍ بدويّ يشبه أهلها تماماً.. إنها ‘رمية’، تقول رفيقتي.. رميةٌ برامٍ؟ تلك القرية البدويّة الصغيرة جدّاً، والتي لم تعترف الدولة بها، وترعرعت حولها المدينةُ اليهودية، فيما ظلّ السكان مصرّين على حقهم في البقاء غيرَ معترفين أصلاً بدولةٍ تحتاج هي لاعترافٍ . لم يُمنحوا حقاً في بناء إسمنتيّ، ولكنهم أصرّوا أن لا يبدّلوا الكوخ ‘الزينكو’ بأيّ قصر بعيد.. تشامخَ الكوخان الصغيران وسط الحيّ اليهوديّ الفاخر الذي حاصرهم من كلّ الجهات.. من يعترف بمن؟ ومن يشكو نشاز الآخر/ كوخٌ من الزينكو لم يتنازل صاحبه البدويّ الفلسطينيّ عن حقه التاريخيّ في الوجود حيث جذور أجداده، أم عمارةٌ يهودية فاخرة زحفت متسللةً فواجهته؟ من سيصرخ يوماً في وجه الآخر :’وما رميتَ إذ رميت ولكنّ الله رمى’..
5
الشمس تتصاعد في وسط السماء، وأصواتنا تتصاعد في حوارنا حول كلّ هذا الجنون الذي يغلّف حياتنا، وضحكاتنا تتبلّل بدمعاتٍ تسخر منّا إذ تغرينا لوزات ‘أبو صالح’. والشارع حولنا يمتلئ بمن خرجوا، للعمل أو للمدارس، عمّال عرب يرمقوننا بنظراتٍ متسائلة أو مشككة، وسيارات يهودية ترانا مغتصبين لمدينة لا يريدون فيها وجوداً لعربيّ إلا كعاملٍ أو كزبون، وزينكو ‘رمية’ يغنّي بأنّ الحقّ لا يموت ما دام وراءه مؤمنٌ به، وكلبٌ تجرّه صاحبته يقترب منا بنباح ينبعث منه صوت صاحبته. وصوتنا بعد ضجيجٍ يهدأ للحظاتٍ قبل أن أهمس لرفيقتي: لعلّ من الأجدى العودة إلى التدخين؟؟ تضحك رفيقتي: لن تقلقي من ألزهايمر يراوغك إن باغتكِ إذن..
هات سيجارة!!
بقلم : أنوار أيوب سرحان ... 19.06.2013
*كاتبة فلسطينية من الجليل