يسعدني ويشرفّني أن أشارك حفلًا آخر لإشهار وإطلاق كتاب لأسير في مركز يافا الثقافي،
تواصل معي الصديق تيسير نصر الله للمشاركة في حفل اليوم، فتردّدت لالتزامات سابقة، وفي زيارتي لسجن النقب الصحراوي يوم الأربعاء سألني سائد وهيثم ومحمد وعبد العظيم، كلّ على حدة، عن نشاطي القادم بما يتعلّق بأدب الحريّة فأخبرتهم عن تردّدي بالنسبة للقاء اليوم فأصرّوا بالإجماع على مشاركتي، فلم أخذلهم، ومباشرة بعد مغادرة السجن، عالباب، أبرقت لتيسير وأكّدت المشاركة، وها أنا أنقل لكم تحيّات أسرى النقب والحركة الأسيرة.
وها نحن نحتفل مع الأسير الحر فهد صوالحي، ابن مخيم بلاطة، بإشهار كتابه "النذير، الخروج إلى الجهاد" (326 صفحة، الناشر: مؤسسة مهجة القدس).
صار مركز يافا الثقافي بقيادة صديقي المايسترو تيسير نصر الله قِبلة كُتّاب الحركة الأسيرة وحاضنة لأسرانا وإصداراتهم، بغضّ النظر عن توجّهاتهم الفكريّة والعقائديّة ما داموا يحملون عبء الهم الفلسطيني.
وها هو حلم فهد يتحقّق، تتحرّر نصوصه لنحتفي بإطلاق وإشهار كتابه في مخيّمه وبين أهله، وكأنّي به يحلّق في فضاء القاعة رغم أنف السجّان.
من لقاءاتي مع أسرانا الكتّاب، كلّي ثقة بأنّه يتمختر وقلبه يرقص فرحاً وكأنّه في سهرة الحنّاء.
يُعنى أدب السجون الكلاسيكي بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يومياتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إذا صح التعبير، "رواية السيرة الذاتية".
من خلال تواصلي في السنوات الأخيرة مع الأسرى الكتاب، ومتابعتي لغالبيّة ما يكتبون، من مخطوطات وإصدارات، أسميته "أدب الحريّة"، وليعذرني الباحثون والنقّاد وأهل القلم على هذا التطفّل.
يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب الحريّة – هل هو أدب كتبه سجناء وأسرى؟ أم أبطاله أسرى؟ أم عالم السجن هو محوره وموضوعه ومادته؟ فهناك من كتب عن السجن دون أن يُعتقل أو يُسجن يومًا واحدًا وهناك الكثيرون من الأسرى كتبوا الرواية أو الشعر أو القصة القصيرة وراء القضبان دون تجربة سابقة ودون دراية بالكتابة وفنّها فأبدعوا.
لن أدخل في التجنيس الأدبي للكتاب، ولكنه جذبني من بدايته وأعادني إلى "الطريق إلى شارع يافا" للأسير الصديق عمار الزبن، فلتكن حكاية كما جاء في البدء "بين السيرة والرواية كانت هذه الحكاية".
صوّر لنا فهد رحلة العذاب ودرب الآلام التي يمرّ بها الأسير في تنقلّه من سجن إلى آخر، في "البوسطة" سيّئة الصيت؛ من سجن مجيدو إلى شطّة إلى الجلبوع إلى تسلمون إلى الجلمة إلى هشارون إلى هداريم إلى الرملة (استراحة قصيرة) إلى بئر السبع (معبار أوهلي كيدار) إلى نفحة إلى ريمون! رحلة تعرّف على الوطن السليب ومعالمه وجغرافيّته، كما قال لي الصديق الأسير حسام زهدي شاهين في إحدى اللقاءات.
صوّر لنا فهد تأقلم الأسير في سجن جديد؛ حين يصل يتفاجأ بأنّه يعرف جزءاً ليس بالقليل، التقاهم شخصياً سابقاً، أو يعرف عائلاتهم، أو يعرف عنهم، أو هامات ورموز سمع بها وعنها: أحمد سعدات، وعبد الحليم البلبيسي، وزيد بسيسي، وعبد الناصر عيسى، وعباس السيد... أو طفل كبُر في الأسر، نور أبو حاشية – ابن مخيّمه.
شاركنا الكاتب وجبة غذاء في السجن؛ "بيضة أظنّ أنّها وُضِعت بعد سلقها أسبوعاً كاملاً في الثلاجة، إضافة إلى شريحتين من الخبز المقطّع ونصف خيارة"، ووضع الزنزانة "السجون التي أكلت الصراصير فيها من ظهري"، والبوسطة اللعينة "يلعن أبو البوسطة وإللي اخترعها"، ويبقى السجين على أمل "مروّحين اليوم ولّا بكره مروّحين".
ومصطلحات بغيضة مُهجّنة تلازم كلّ أسير؛ البوسطة، معبار، ووحدة الناحشون.
في الخلفية يطفو على السطح النكبة واللجوء والمخيّم وكرت التموين البغيض، ومخيّم بلاطة هو بطل الرواية، فيشكّل الكتاب لمسة وفاء لحارة الجامع، وحارة أبو ليل، وحارة "البدود"، وساحة الروضة، وبقالة أبو حازم خرمة، ومطعم الغاوي، ومقهى العاصي، شارع القدس، شارع "المسلخ البلدي" وسهل بلاطة. وأترابه؛ مراد، مرشود، وحسين أبو ليل وناصر عويص ورفاق دربه ماجد وياسر وكايد (كم كنت سعيداً حين قرأت ما كتبه عن الصديق الأسير ناصر الذي التقيته في سجون الاحتلال كما أفرح حين أقرأ عن كلّ صديق في كتاب! ومن هنا أبعث التحايا للعزيز ناصر).
يصوّر لنا فهد طفولة ابن المخيم السليبة؛ اقتحامات وجنود الاحتلال ليل نهار، اعتقالات الشبّان، حصار وفرض لمنع التجوّل عالطالع والنازل، فرض الخوف والرعب، إغلاق مدخل "حارة الجامع" دون سابق إنذار وبشكل شبه دائم، براميل حديديّة معبّأة بالرمل ومكعّبات اسمنتيّة تُعيق الحركة من وإلى الحارة، وطفل سُرقت منه طفولته بلا ملعب يمارس فيه الطفولة كباقي أطفال العالم. حصار دائم يولّد إطارات السيارات المشتعلة وأكوام الحجارة المعدّة للمقاومة، فتصبح لعبة الموت هي الخيار الوحيد الأوحد، نعم، طفل عن طفل بِفرِق، ف"رصاصة مطّاطيّة واحدة لطفل تكفي لأن تضعه في طرد بريدي يقع في مقبرة المخيّم"، وقنبلة غاز تقع بجانب طفل تخنقه.
نشاهد في الكتاب سيناريو ولادة مقاوم؛ طفل يجمع الحجارة، ثمّ مراقب، ثمّ رامي حجارة والمشاركة في "لعبة" رشق الحجارة التي تواجه سلاح المستوطنين، وتتطوّر إلى الزجاجة الحارقة (المولوتوف)، قارورة زجاجيّة وقطعة قماش ومادة سائلة مشتعلة وأعواد ثقاب (وإذا شنّصت معه فقدّاحة غاز)، ويتحوّل للمقلاع، ويشعر بالنشوة والانتصار حين يكسر زجاج سيارة مستوطن بمقلاعه البدائيّ وملاحقة الجنود والمستوطنين المدجّجين بالسلاح له، إلى الحزام الناسف، إلى الحقيبة المفخّخة ومنها إلى السيّارة المفخّخة (سيارة الموت) وإلى الصاروخ. تتطوّر تراتيله من سورة الحجر إلى المولوتوف إلى الكوع إلى العبوة إلى الحزام الناسف ودعاء ختم الجهاد يرافقه حاملاً تذكرة سفير للشهادة.
تأخذنا الكاميرا إلى الاحتجاز الأول؛ "أخذني الجندي ورماني في الجيب بعد تقييده ليدي من الخلف بواسطة رباط بلاستيكي متين يحتزّ يدي كلّما حاولت فكّ الوثاق"، ومنها إلى الاعتقال الأول؛ "انقض أحد الجنود على جسدي الهزيل وتمّ تعصيب عينيّ بقطعة قماش نتنة ورُميت إلى تبك الشاحنة، لم تكن إلّا غرفة حديديّة لا يوجد بها إلا مقاعد تخلو أحضانها من أيّة قطعة اسفنج" (البوسطة، ص. 48).
وتتنقّل بنا العدسة إلى المستعربين، وفجأة، بدراماتيكيّة، تسلط الضوء على أوّل شهيد شهد الصبيّ استشهاده ومشى في جنازته، نشأت الذي عرفه سابقاً، ومنها إلى الدروع البشريّة التي حرّمتها كل المواثيق الدوليّة وتتنافى مع كل الأسس والمعايير والقِيم.
يتناول الكاتب ظاهرة الحزام الناسف، وبداية اختلاف وجهات النظر على الساحة الفلسطينيّة حول سبل مقاومة الاحتلال والمحتل، الجهاد الإسلامي وحماس من جهة، وحركة فتح وأحزاب اليسار التي ركنت لفرضيات الحل السلمي، على حد قوله (ص.58)، والعمليات الاستشهادية التي قام بها رائد زكارنة وصالح صوي ومجدي أبو وردة وإبراهيم السراحنة (حركة حماس)، أنور سكر وصلاح شاكر ورامز عبيد (حركة الجهاد الإسلامي).
رسم خارطة انضمامه لصفوف المقاومة، ولادة فكرة "مجموعة النذير الاستشهاديّة"، تولّدت كمبادرة فرديّة في مخيّم بلاطة (ما أشبه اليوم بالأمس) وتجنّده لاحقاً لحركة الجهاد الإسلامي، المطاردة لسنوات، وتصويره الرائع بالعَرض البطيء (slow motion) لساعة الاعتقال واصطياده، حسب قوله، يوم 14.02.2013 وما تبعه من تحقيق في بيتاح تكفا سيّئ الصّيت وفي معتقل الجلمة لاحقاً، والمحكمة الصوريّة وخطابه أمام القضاة الذي ذكّرني بخطاب لوركا ساعة الإعدام.
وتلقّيه خبر استشهاد رائد فتوح حجة خلال تلك الفترة (زوج أخته ووالد ثلاثة أطفال)، وزيارة المقبرة ليتوزّع على قبور الشهداء، جاءهم يعاهدهم على اللحاق بهم أو يعاتبهم على رحيلهم الذي كان.
صوّر فرحته بالمسدس الأول، وطقوس التحضير للاستشهادي؛ التصوير والوصيّة والحلاقة واللبس وها هو علاء "لبس الحزام خلال إلقائه الوصيّة وكان فرحاً به وكأنه إكسسوار لثياب يوم العيد أو يوم عرسه!!".
تناول فهد مواضيع أخرى؛
زيارته الأولى للقدس والأقصى وأثرها على تبلور ِفكره الثوري،آفة ما يُسمّى "التنسيق الأمني" وفقاعة "الأمن الوقائي" والسلطة الفلسطينيّة باتت لجنة دوليّة لحفظ السلام،
سماسرة الأراضي وتسريبها للصهاينة، وقتل العملاء،ظاهرة تبنّي فصائل لعمليّات فدائيّة لا علاقة لها بها من قريب أو بعيد، والأنكى من ذلك، من تقبّل الدعم المادي الخارجي "ألقوا أسلحتهم وبدأوا تجارتهم"،
ساعة للفرح لدى المقاوم وهدية الزواج ونقوط العرس قنبلة يدويّة، وعلي يبيع حليّ زوجته لاقتناء مسدّس.
ازدواجية المعايير في تعامل المجتمع الدولي، "يعني علشان في يهود محاصرين صار في ضغوط دوليّة، وإحنا كل يوم بنموت ما حدا حكيلنا وينكم!"(ص. 73)
تناول فهد زمن السجن؛ الزمن الحالي الثقيل البطيء موازياً للزمن الماضي وما مرّ به خفيفا سريعا، تماماً كما وجدته في زمن صديقي وليد دقة الموازي.
ويبقى الأمل بالحريّة ملازماً له، ولكلّ زملاء الأسر، ومع كلّ بصيص صفقة يكبر الأمل بالتحرّر، غاية كلّ أسير موعد مع الحريّة رغم إدمانه سماع الأخبار السيّئة؛ موت وفقدان وخسارات واعتقالات وسجن وهدم بيوت وإبعاد وحربه اليوميّة مع سجّانه.
ينهي فهد قائلاً بصريح العبارة: "الأخبار واضحة. رح نروّح من البوابة ومش رح ننجبر لحفر نفق جديد، إن شاء الله".
كلمة لا بدّ منها، أثمّن غالياً ما تقوم به مؤسسة مهجة القدس في خدمة أدب الحريّة، وهذا إصدارها الحادي والعشرون لأسرى خلف القضبان، وهذا ليس بمفهوم ضمناً، في عصر التسويفات و"هذا أقلّ الواجب".
وأخيراً، شكراً لك فهد على هذه اللمّة
وشكراً لأخي تيسير ولمركز يافا الثقافي
الحريّة لفهد وكافّة أسرى الحريّة
[*] مداخلتي في حفل إشهار الكتاب يوم السبت 22.07.2023 في مركز يافا الثقافي/ مخيم بلاطة
النذير…..!!
بقلم : حسن عبّادي ... 26.07.2023