الموت هذا المحتوم الذي هز كيان كلكامش، وارهب الإنسان العاقل منذ بداية الوجود ، فالكانسان هو الكائن الوحيد الذي يدرك ان الموت هو نهاية حياته مهما طالت ، بمعنى انه حدث مخيف مرهوب مفزع ، ولكننا نجد في مدينة ((ياسمينة)) مايكفي الإنسان من الموت السعيد!!
فأية مدينة هذه التي لا توفر للإنسان الا مايكفيه من الموت السعيد ، ولا تحقق له طموحه في العيش الرغيد والسعيد ؟؟؟
جمالية السرد ، وتناسق
نسيج الحبكة :-
تميز السرد الروائي بجمالية ورشاقة المفردة ، ودقة الدلالة ، وامتلاء الكلمة بالمعنى ، مما أمتع القاريء وجسم له مواصفات وصفات الصورة ، والتعريف بالحدث… استطاعت الروائية ان تمسك بدراية وفطنة ومهارة بخيوط السرد ، فجاء نسيج الرواية محكما، منسجم الألوان ، وعدم وجود خيوط سائبة ، مما يربك القارئ ، وقد يشعره بالتذمر لعدم قدرة النص على إكمال الصورة والإيفاء بالمعنى ، فجاء رداء الرواية ضمن مقاس مضمونها بالضبط ، فأعطى جسد الحكي المزيد من النظارة بعيدا عن الترهل . ااهتمت الروائية بالمنلولوج الداخلي لشخصيات الرواية وبالخصوص الرئيسية منها ، كذلك لم يكن اختيار أسماء الشخصيات اعتباطيا بل رامزا دالا .الرواية تنتمي الى جنس الرواية الواقعية الانتقادية الجادة والواعية .رغم إنها منحازة الى الحرية أولا والى العدالة وأنصاف الفقراء والمقهورين ، مرسلة لصرخة مدوية ضد قوى القمع السلطوي ، ونزاع أقنعة السلطات الإجرامية ، الا إنها لم تنجر الى اسلوب الايدولوجيا المبتذلة ، بل كانت الأصوات جميعا تأخذ حيزها في الحوار والفعل المضاد ، لم تفرض لونا واحدا نقيا على شخصياتها بل جعلتها ضمن إطارها الإنساني الواقعي ، مما اكسبها المزيد من قوة الإقناع والإبداع …
البعد الفكري للرواية
أظهرت الروائية وعيا متقدما في كشف اباب انحراف الإنسان في بلدان العنف العرقي والطائفي وخصوصا في بلداننا العربية الإسلامية ، ليكون هذا الإنسان أداة السلطة المأزومة لإدامة وجودها ، وتأبيد استغلاله وقهره وحرمانه ، دون ان يتمكن من الانفكاك من دوامة العنف والجريمة التي سحب إليها ، بفعل مكر وتخطيط وقهر رؤوس السلطة الإجرامية
ومن أهم أسباب هذا الواقع هي حالة الفقر المدقع حد الموت للأغلبية الساحقة ، إدامة حالة التجهيل والتضليل ، تكريس حالة التفكك الأسري، وهشاشة التضامن والتكافل الاجتماعي ، تكريس هيبة السلطة ورموزها من شرطة وجيش وامن ومخابرات . قتل توجهات الشباب للفن ، والحب ، والعمل وإلقائهم في جب البطالة واليأس ليكونوا صيدا سهلا لعصاباتها الإرهابية ، العمل بكل الوسائل لقمع المنظمات اليسارية والإسلامية التحويرية وتصفية رموزها وناشطيها ضمن حملات الاغتيال المنظم ((سي منصور رئيس العمال))،((صحفية وأثنين من أشقائها)) ،((عملية فرار السجناء))..الخ ، بالإضافة الى تخريبها من الداخل عبر دس عناصرها ضمن صفوفها ، وإلصاق تهم الإرهاب والقتل وجرائم السلطة ببعض إطرافها ، وافتعال المعارك بين صفوفها ، الهاء الجماهير في معارك جانبية ، وتصنيع عصابات القتل والترهيب والتهريب ،عبر تصنيع ((طناطل)) الموت ، و((سعالي)) الجريمة التي لاتقهر ، لنشر الخوف والرعب بين المواطنين ودفعهم للتخلي عن كل توجه نقدي لسلوكياتها وقهرها وفسادها ، متمسكين بردائها القذر كمخلص من كابوس القتل وعصابات الموت ، مبررة لها كل افعالها في خنق الحرية وسرقة ثروة الشعب بدعوى محاربة الإرهاب ، بعد ان تحكم عصائب التضليل على عيون المواطن لكي لا يكشف كون السلطة هي راعية ومصنعة الإرهاب ، كما حدث في الجزائر وحمامات الدم وقطع الرؤوس المنسوبة للقوى الإسلامية ، وعصابة ((ابو طبر)) التي صنعها صدام في العراق وغيرها الكثير …لايسع المقال لتشريح طبيعة هذه الحكومات وسبب أزمة هيمنتها الطبقية المزمنة ، مما يلجئها الى مثل هذه الأساليب الإجرامية لتأبيد سلطتها .
((نجاة)) الأولى واحة الحب والأمن تسرقها السلطة بالقوة والعنف عبر ((الضابط)) الذي أصبح زوجها وأولدها ((حياة ))، بالتعاون مع والد ((يلخضر)) الاناني والجاهل ، أما ((نجاة)) الثانية ابنة الأستاذ غير المرغوبة ، فقد كانت عرجاء ، مغلوب على أمرها ، اختطفها أيضا ((المخبر السري)) الضالع في الإجرام ، لتلاقي حتفها بعد أول ولادة ل((حسين )) الضابط الشاب الذي يتربى في كنف جده وجدته ، ويقع في حب ((حياة ))، ليكونا نواة جيل جديد يمكن ان يكون بارقة أمل من اجل حياة أفضل رغم ((حسين)) دلالة الحسن والاستقامة أصيب إصابة خطيرة نتيجة محاولة اغتيال ،
وتناغم مستتر بين ((يلخضر)) الذي يحاول ان يفلت من دوامة العنف ، و حبيبته أرملة السلطة ((نجاة )) الأولى ، في محاولة لترميم ما تم خرابه وتدميره ، هي اشارة أمل أرسلتها الروائية من اجل حياة أفضل ، ومدينة تغادر لعبة الموت الى فضاء الحياة والسعادة والحب والسلام حينما يقترن ((حسين)) بـ((حياة ))…
في المدينة مايكفي لتموت سعيداً.. للروائية الجزائرية ياسمينة صالح.. صناعة الموت لعبة الحكومات المأزومة!!
بقلم : حميد الحريزي ... 07.09.2022