لا أكثر إسعاداً للكاتب وهو يقدم كتابه للنشر من شعوره أنه يقدمه لناشر يؤمن به، ناشر يجمع بين كونه مبدعاً ومثقفاً وبين اتسامه بالشغف تجاه إبداعك، ذلك ما أدين به لصديقي الكاتب والناشر صالح البيضاني، وهو شعور أخال أن أكثر من مئة وخمسين كاتباً تخالجوا به خلال عامين من عمر “عناوين بوكس”.
كثيراً ما تتحطم حماسة الكاتب بعد إنجاز كتابه أمام رقة الناشرين المزيفة، يتأملون لهفتك لنشر كتابك بلذة خفية قبل أن يكسروا ولهك بسرديات لا تلائم تحليقك العالي ونشوتك الباذخة.
وحده صالح البيضاني يتحدث معك حديث كاتب مولع بالكتب، وحديث صديق خبر عوالمك وأيقن بك منذ زمن بعيد، وبنبرة نبيلة يعانق كتابك بثقة تشبه ثقتك، تشعر أنه كان يحلم بالكتاب كما حلمت به، وأنه كان يشاركك تأليفه، ويعايش جهدك فيه. تشعر أنه متحد بصنيعك وأنه لا يتحدث عنه من الخارج.
يندر أن تكتب عن صديق خبرته طويلاً، لكنك تبدو متفاجئاً بطريقة تقديره لك ولكتابك. مثلما يندر أن يتحول كاتب إلى ناشر ثم لا تتبدل طباعه، لا أنكر أن النشر صناعة تعتمد على الحزم والربط والضبط وعلى تسيير دقيق للمشروع يحسب فيه الناشر ما له وما عليه، لكن ما أنكره هو نسيان الناشر لوضعية الكاتب حين يقدم كتابه للنشر، إشعار الكاتب بطريقة ما أنه ليس نداً، أو في أقل الأحوال إغراقه بسيل من المبررات بغية إقناعه بأن كتابه ليس غرة هذا الوجود، فإذا كان يشعر بذلك فإن هذا يخصه وحده، أو يخص أطرافاً أخرى لا تحسب حساب ربح أو خسارة، لأنهم مجرد أصدقاء لا تحملهم أراؤهم أية مسؤولية.
لا شك أن هذه مهارات مرموقة في التعامل أساسها قدرة غير عادية على تذكر الكاتب نفسه قبل أن يكون ناشراً، وهذا ليس سهلاً، فأن تكون صاحب دار نشر يشبه أن تتولى وزارة، كثيرون يغيرهم المنصب، أن يؤتى إليك فأنت مختلف ومميز، وهذا غالباً ما يغير طباعنا.
حين أرسلت إلى عناوين بوكس كتابي “الحضراني في الرمال العطشى” وفوجئت أن صالح البيضاني أكثر حفاوة به مني، أحسست بمشاعر أخاذة، كان هو قد اعتاد على الاحتفاء بكتبي سنوات طويلة، وكان احتفاله بكتابي السابق “أورفيوس المنسي” حدثاً بحد ذاته، لكن صالح كان لسنوات طويلة يفعل ذلك بطريقته الخاصة، وكانت أشياء كثيرة تتبدل فيما يحيط بي، إلا ثقة صالح البيضاني بما أكتب فإنها تزداد بشكل دائم.
هو يعرف أني أتعب كثيراً على كتاباتي، غير أني أعرف آخرين يعرفون هذا، لكنهم يحبون أن يصمتوا إزاءه. يفضلون الصمت حتى وهم بمنأى عن تبعات الاعتراف به والتعبير عنه، فيما يحرص صالح على مدار خمسة وعشرين عاماً على التعبير عن ذلك باستمرار.
لأجل هذا تتحول عناوين بوكس إلى منارة حقيقية تضيء وجداننا، نتحقق بها وتتحقق بنا.
لقد أنجزت عناوين بوكس طباعة ما يزيد عن 130 عنواناً، تميزت بحسن الاختيار، وجودة المستوى، ما زاد من فاعلية الدار هو تعاملها مع آخر تقنيات التسويق، وخلال الأشهر الماضية تلقيت رسائل من أصدقاء في أمريكا وبريطانيا وتركيا وفرنسا والمغرب والخليج قرأوا رواية “أورفيوس المنسي” بعد شرائها من منصات عالمية ومشهورة. مثل أمازون وكوبو وغيرهما، وهي بهذا توفر نافذة طالما حلم بها الكتاب اليمني.
ومن خلال عناوين بوكس يعيدنا صالح البيضاني إلى تذكر الصورة الإيجابية للتنويرين الذين قامت على عاتقهم النهضة في شعوب وأمم كثيرة.
حين يكون الناشر أكثر من كونه ناشراً!!
بقلم : علوان الجيلاني ... 23.07.2022