أحدث الأخبار
الأربعاء 24 نيسان/أبريل 2024
القضية أغلِقت!!
بقلم : هدية حسين ... 23.02.2022

في جميع رواياته يضع الإيطالي انطونيو تابوكي أمام قارئه خارطة واضحة المعالم بكل التفاصيل مهما كانت صغيرة حتى يكاد القارىء يمشي في الطرقات والشوارع التي يصفها ويختلط بناسها ويدخل أروقتها الضيقة ويأكل في مطاعمها، فهو يكثر من وصف الأمكنة بكل محتوياتها، أمكنة تعيش في الماضي، وتوحي عن زبائن مروا عليها وسهرات أقيمت فيها منذ زمن بعيد، يلتقط المهمل فيها كما لو أنه ينظر من خلال ميكروسكوب ليلتقط أدق الأشياء بما في ذلك حبات الغبار، ويحاول كشف المخبوء وراء كل تلك الأشياء للوصول الى الحقيقة، وغالباً ما تكون تلك الحقيقة متعلقة بمصير الإنسان على هذه الأرض، فهو يرى أن الحياة غير مفهومة بما يكفي، سبق أن تناولنا روايته المعنونة (تريستانو يحتضر) تلك التي توصّل فيها بطله في أيامه الأخيرة الى زيف الأهداف التي ناضل من أجلها إزاء فناء الإنسان، واليوم سنتناول روايته (سراب) التي ترجمها نبيل رضا المهايني، تبدأ الرواية من المشرحة وهي بؤرة العمل لتنطلق بعدها في رحلة البحث التي يقوم بها سبينو بطل الرواية، وهو عامل في المشرحة، كل ما عليه هو تسجيل وقت وصول الجثة، وتصنيفها، وترقيمها، وقد يصورها أحياناً، ثم يملأ بطاقتها الأخيرة التي تخولها مغادرة هذا العالم المحسوس الى اللامحسوس، لكن سبينو سيتجاوز مهمته هذه، عندما تصل جثة لشاب قتيل مجهول الهوية لم تستطع الشرطة الوصول الى معلومات بشأنه، وتبقى الجثة في المشرحة على أمل أن يأتي يوم ويتعرف عليه أحد، ويقوم سبينو بالبحث المنفرد لعله يعيد للجثة هويتها وتُدفن بكرامة، لأنه يؤمن بأن الحقيقة لا تموت بموت صاحبها.
تقع المشرحة في مشفى المدينة القديمة، وهو مشفى قديم أيضاً لم تبق منه إلا المشرحة وجناح التخدير، وأنت تقرأ عن هذه المدينة ستحس بأنها تحتضر لتصبح هي الأخرى جثة مثل تلك الجثث القابعة في الأدراج المثلمة، الاحتضار يشمل مبانيها وبيوتها وأسواقها، كل شيء فيها متهالك وليس هناك أي اهتمام من قبل الحكومة لإعادة الحياة لها، واقع مزرٍ، عجزة ومومسات وعاطلون عن العمل وبقالون يعملون في دكاكين متهالكة، حتى عمال النظافة لا يزورونها فتكدست النفايات وانتشرت الأمراض وكثرت القوارض الشرسة وهي تجوب الشوارع، بهذه الصورة المزرية يعمل سبينو، غير مكترث إلا بما يخص الجثث، وحين يخرج من المدينة فإنه إما أن يلتقي صديقه رئيس تحرير إحدى الصحف ويدعى كورّادو، أو يلتقي صديقته سارة، سارة الحالمة بالسفر الى بلدان أمريكا الجنوبية، غير أنها هذه المرة قررت زيارة مدينة البؤس، وجلست في إحدى المقاهي مع سبينو لتتناول شراباً بالنعناع على الطريقة القديمة، وسنعرف ماضي سارة من خلال تبادل الحوار مع سبينو، فقد كانت مرتبطة برجل لم يحصل على شهادة جامعية إذ هو يرى أن الوقت فاته وتقدم في العمر، وكلما حاولت سارة أن تستدرجه للزواج لاذ بالصمت، فهو يرى أن يبقيا عاشقين أفضل من أن يكونا زوجين.
لن تأخذ قصة سارة مع حبيبها مساحة واسعة، فالرواية تهتم بأمر مصير الإنسان عندما يصبح جثة مجهولة الهوية، وسعي عامل المشرحة لمعرفة صاحبها، ذلك الشاب الذي جاءت به الإسعاف بينما كانت المدينة نائمة، كان في السيارة أربعة من الشرطة، قام سبينو بتسجيل وقت الدخول ثم استدعى الطبيب المناوب ليتحقق من الوفاة، ويبدو أن الشرطة كانت قد دخلت في معركة مع عصابة فها هو أحد الشرطة جريح ومن الطرف الثاني هذا القتيل، فهل كان أحد أفراد العصابة التي هرب أفرادها، أم جاء الى المكان بالصدفة وقُتل عن غير عمد، الشرطة لم تهتم كثيراً بالأمر لتعذر الحصول على معلومات كافية، فلماذا يبحث عامل مشرحة لمعرفة القتيل فيما تهمله الشرطة؟
جرى كل شيء بشكل روتيني ووضعت الجثة في أحد الأدراج ريثما تتوصل الشرطة الى معلومات عن القتيل، ولما طال الأمر ولم تكن قد وردت أية معلومات جديدة لدى الشرطة فقد قام سبينو برحلة البحث عن كل معلومة مهما كانت صغيرة أو تافهة ليعرف اسم القتيل، ولم يتوصل الى شيء أكثر مما توصلت له الشرطة، ففي كل مكان تواجد فيه ذلك الشاب كان له اسم مختلف، مع ذلك لم يجدوا له سجلاً إجرامياً، وأجمع كل من عرفه في مكان ما بأنه شاب مهذب وقويم السلوك وامتهن عدة مهن لكي يعيل نفسه، حتى كورّادو صديق سبينو لم يتوصل الى شيء، كل ما حصل عليه من معلومات عن طريق أحد المحررين لم يقنعه، لكنه لم يكن متحمساً مثل سبينو للبحث والتقصي، فالمصير الذي راح إليه القتيل وأصبح جثة لا يعرفها أحد يمثل لدى سبينو رمزاً أخلاقياً للإنسان، ومن هنا بدأ البحث عن حقيقة هذا الشاب، وبسبب صورة وجدها في سترة القتيل التي لم تفتشها الشرطة، وما ذكره له الآخرون في أماكن عديدة، حاول سبينو تتبع بعض الخيوط، وكل خيط يقوده الى خيط آخر، من الخياط الذي صمم السترة الى المحاسب الذي كان يعمل لدى الخياط الى شخصيات أخرى، حتى وصل أخيراً الى إحدى المقابر، وهناك اكتشف أن أحد النوارس كان يتبعه في رحلته، فشعر سبينو بأن هذا النورس ما هو إلا جاسوس أرسله أحدهم لغرض ما، لكن النورس وقف أخيراً على شاهدة أحد القبور كما لو أنه يهديه تلك الحكمة المنقوشة على الشاهدة (يموت جسد الإنسان لكن الفضيلة لا تموت) عندها خرج سبينو من المقبرة ليجد أن القاضي قد أمر بدفن الميت من دون اسم وأن القضية أغلقت، فهل سيكف عن البحث أم أنه اكتفى بما توصل إليه؟

1