أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
أعطابُ الرّوح….!!
بقلم : شميسة غربي ... 28.04.2021

تدحْرجَ الليل على مباني المدينة العتيقة… أنوارٌ خافتة من منازلَ مُتلاِصقة؛ تخْترِقُ النوافذ الصّغيرة؛ فتضيء الأزقّة المُتشابكة…. في هذا الوقت؛ تقلُّ حركة الراجلين.. فلسعات الليل الباردة، تتسلّل إلى الأجساد العليلة؛ حيث مأدُبَة “الوجع” في انتظار المفاصل الضعيفة…
يخْرُجُ “كريمو” مِنَ المَخْبزَة، وهو ينفض يديْه ويمسحهما بطرَفٍ سُفلي مِن مِئْزرِه القصير الأبيض، يتفقّدُ – كعادته في هذا الوقت – الجسد المُكَوّم في زاوية الزّقاق.. فوق الجسد؛ تكدّستِ الأغطية البالية بألوانها الغائبة وبخيوطها المُتمرِّدة؛ الهاربة من هنْدَسَة النّسيج الأولى؛ إلى هنْدَسَة الشتات والتمزّق… إنّه “فِعْلُ السّنين” بالأشياء… بالأعْمار… بالأشكال… بالأحوال… التّغْيير الحتْمِي… الذي يزْرَعُ بُذورَ العتبة ما قبل الأخيرة في سيرورة الحياة…
التنفّسُ بطيء…يظهر ذلك من خلال سُكونِية المُدّثّر… يتقدّم “كريمو” نحو الجسد الشبه ميّت. بِلطفٍ؛ يسحب بعض الغطاء عن الرّأس… العينان مُغْمَضَتان، وَجْهٌ داكِنٌ نالَ مِنْهُ الزّمن… لِحْية مُبَعْثرَة، مُغْبرّة، دخلتْ شُعَيْراتُها أرْشيفَ النِّسْيان؛ فاتّسَختْ وَتلبّدَتْ وباتتْ همّاً جديداً؛ على خارِطة وَجْهٍ؛ رسَمتْه كدَمَاتُ الأقْدار… شاربٌ تدلّى؛ فغطّى الفمَ واسترسل على الجانبيْن في حُرّية لافتة…
وضع “كريمو” يده على جبين الرّجل الغارق في سُباتِه، تحَسّسَهُ… باردٌ كالثلج… حاول أنْ يهُزَّهُ بالضّغْطِ على أحد كتِفَيْهِ… ثمّ على ذراعيْهِ، زفر الرّجل زفرة عميقة وفتح عينيْه… حرّك شفتيْه بكسلٍ كبير؛ ليقول شيئاً…لكنه لم يلبثْ أن تراجع… زمّ شفتيْه، رفع يديْه وغطّى بهما وجْهَهُ… “ربّما أراد أن يحتجّ… لمَ لا يدعونَهُ وشأنه..؟ !” هكذا خمّن “كريمو” … فجأة، وبِهَبّةٍ واحدة، رمى الرجل الأغطية جانِباً واستوى في جلسته، يتحسّسُ أطرافه ويمسح على مفرق رأسه؛ حيث الشعر المُجَعّد الخشن، حالُه من حال اللّحْية المُتمرِّدة… يُبادرهُ “كريمو” بتحية مرِحة، ويدعوه للاستعداد للعشاء؛ حتى وإن كان في ساعات متأخّرة من الليل… يأتيه بوَجْبة ساخنة ومعها خبزٌ شهِيّ…يتناول الرجل طعامه وهو يهزُّ رأسه بصعوبة بادية…
غريب الزقاق…
تعوّد “كريمو” – العامل في المَخْبزَة – أن يتفقّد هذا الرّجل في أوْقاتِ مُناوَبتِه… يُطعمه، يُقدّم له الشاي السّاخن، وقد يأتيهِ بحُزَمٍ من الملابس الرجالية البالية؛ يحمي بها جسدهُ من قساوة البرد في ليالي الصقيع…
لا أحد يعلم مِن أين أتى هذا الغريب… يعيش في زاوية الزّقاق منذ سنة كاملة، قدِمَ إلى المكان في يْومٍ شتْوي؛ ترَاقصتْ فيه حبّاتُ البرَد على المباني والجُدرَان الهشّة؛ وبعض الشُّجيْرات حيث ازدانتْ أوراقها بِكُرَياتٍ بيْضاء، تتبّعَتْها أيادي الأطفال؛ بقفازات صوفية وحرَكاتٍ مرِحة، وأصواتٍ ارتفعتْ قهْقهاتُها… تفاعُلٌ برِيء مع منْظرٍ جميل؛ يسْتمتع به الصّغير قبْل الكبير…. الكبير الكادِح، الغارِق في دوّامة الِانْشِغال بِكسْبِ القوت؛ ليْس إلّا…
قدِم الرّجل، يجرُّ أطمارَه، حافي القدَمَيْن، خافه الصِّبْيان، كمْ ضربوهُ بالحجارة… كمْ تناوبوا على إهانته؛ فنعتوه بنُعوتٍ شتّى: “كرْدوش” ( لأنّ شعر رأسه خشن..) “بُورْزُزْ” ( لأنّهُ كان يلُفُّ بطنه وصدرهُ بأقمشة طويلة طول العمائم: الرّزّة ) “البكّوش” ( لأنه لم ينطق أمامهم على الإطلاق ) “البهْلول” وكان هذا النعت الأكثر شيوعاً بين صِبْية أزقّة المدينة…. عندما تعوّد الصِّبْية عليْه، تركوه وشأنه، بلْ منهم من أصبح يضع الحلوى أمامه بحذر.. منهم مَنْ كان يرمي بعض الدّنانير باتّجاهِه، منهمْ مَنْ كان يتَقَوّى بوالده أو بأخيه الكبير؛ فيقوده نحوه، ويضع بين يديْ هذا الغريب؛ فاكهة أو لُمْجة مدرسية، أو كعكاً ساخناً…
ألِفهُ رجال المدينة العتيقة، فقد كان يقضي طِوال اليوم؛ يجوب الأزقّة، يجوب المقبرة وكأنه يبحث عن قبْرٍ مُعَيّن…وعندما يتْعَب؛ يجلس بين القبور واجماً، مُطئْطِئاً، غارقا في عالمه الخاصّ… ليتفطّنَ بعد مدّة؛ على وقْعِ أقدامِ زائر أوْ عِدّة زوار، يستغربون تواجُدَهُ أمام قبور أحبّائهم… تعتريه رعشة… ينهض وهو يُلَوِّحُ بيديْه تُّجاه شاهدة القبر…يسير نحو قبورٍ أخرى؛ لمْ يصِلْ زوارها بعدُ… ثمّ لا يلبث أن يُغادر المقبرة في اتّجاه مقاهي المدينة، يدخلُ إحداها، يُبَحْلِق في الجُلّاس…يتفرّسُهُمْ – عن بُعْد – واحداً واحداً، يراهُ النّادل؛ يُهرْوِلُ وبِلُطْفٍ يُخْرِجه من المقهى؛ بعد أن يضع في يده بضعة دنانير… بلا مبالاة؛ يرميها في أحد جيوب سرواله المهترئ… وبخطواتٍ مُتَعَثّرة؛ أهْدرَ ثباتَها خدْشُ الزّمَن الصّعْب؛ حين تحالف مع الحظ الأعرج؛ يخرج الغريبُ من المقهى صامِتاً، مُنكّس الرّأس، فالزّمن والحَظ؛ وَقّعَا وَثيقة يأسه القاتل… !
“كردوش”… “بورْزُزْ”… “البكّوش”… “البهْلولْ” …هومَنْ فقَدَ احْتمالات البقاء على أرْضٍ؛ أحْرَقَتْ ساعاتُها كل أحلامه، يوم ابتلع زلزالها جميعَ أحِبّائه….
سُلْطان الدّفَقَات…
فكّر”كريمو” في طريقة تُمكِّنُهُ مِنِ اسْتِدرَاج “بهلول” إلى الاسْتِحْمام. الجسد…الذي ألغى طُقوسَ الماء مِن قاموسه؛ منذ سنة كاملة على أقلِّ تقدير؛ أصْبحَ ينُوءُ بحِمْل الصّعْلكة؛ تضاريس “الدّرَن” أجْهَدَتْ عظامه، وأنْتَنَتْ رائحته، تشقّق الجلْد…سكنتْه بُقَع ٌ سوداء…حشرات بين الرأس والرقبة؛ تظهر وتختفي في موكب رهيب، وقدْ شدّتْها تخمة العُفونة، فتهاوَتْ على الجلد؛ تمتص دماءهُ بإصرارٍ كبير…!
اجتمع الخبّاز “كريمو” بِثُلّةٍ منْ شباب الزّقاق، بسط فكْرته، رحّب الجميع بالفعل النّبيل.. أخذوه إلى دار الاغتسال، أحاطوا به من كلّ جانب.. حاول الفِرار.. لكن كانتْ سواعدهم كافية لِردْعه… ساعة، ساعتان، الماء الدافئ؛ يتدفّق فوق الجسد الظّمآن…رغوة الصّابون تشقُّ طريقها بعفوية على جِلْدٍ؛ هجَر طقوس التّنعُّم بدفقات الماء… وكأنّ هذا الجسد اسْتحال إلى كفن منْ دُخان… فتكدّر معه لون الماء والصابون إلى حينِ صفا الجلد وذاب ثقل درنه…!
أحْضر “كريمو” مناشف كبيرة وملابس شبه جديدة، وتعاون الشباب على إلْباسه، أمّا هو فغرق في محْراب سَهْوِه… تركهم يفعلون ما يريدون… كان “كريمو” واثقاً من أن هذا الرجل ليس مجنوناً… لم يُؤذِ أحداً منذ قدومه، لمْ يصْدُرْ عنه في حق السَّاكِنَة؛ ما يَشِي بمرض عقلي أو تجاوُزٍ خطير… لذلك اعتبرهُ مُجرّد “درويش” هائم على وجه الأرض، يعيش في عالم؛ صنَعهُ لنفسه لا لِغيْره…!
صُوَرٌ مُتَرنِّحات….
انْتهَتِ العملية بسلام…. أخذهُ “كريمو” إلى حلاّق الزّقاق، بعد أن أرْغمَهُ على ارْتداء حِذاءٍ؛ جَادَ به أحد الساكنة… أجْلسه الحلاق أمام المرآة، وغطى صدْره وظهْره بقماش دائري كبير، تدلّى حتى لامَس القدميْن الأسِيريْن داخلَ الحِذاء الرياضي الذي رُبِطتْ خيوطه بقوة؛ تمنعه من السير حافيا مرة أخرى….
أمام المرآة، أغمض الدرويش عيْنَيْه، رَكِب دراجته الهوائية، وأطلق العنان لخياله…
كان قدْ غادر صباحاً إلى المطعم في إحدى المدن الكبيرة؛ حيث يعمل مُساعد طبّاخ… وصل منشرحاً، يُدنْدِنُ بأغاني “فيروز”… ارْتدى مِئزرَه وطربوشه الأبيض، وراح يتصفّحُ قائمة وجبات هذا اليوم… بينما رئيسه يُعايِنُ مكونات الطعام ويُسجّل ما بدا له ناقصاً على كُنّاشه. في هذا المكان؛ تعرّف “عبد الله” على عامِلة شابّة؛ نزحتْ مع عائلتها من “سوريا” زَمَن القصف الهمجي…نشأت علاقة بينهما، توطّدتْ بالزواج، ازدان بيتهما بسعادة لا وصف لها…. لمْ يبق سوى ثلاثة أشهر؛ وتضع “مليحة” مولودها…الاستعدادات مُكَثّفة لاستقبال الضيف الصغير…والدة “عبد الله” الحاجة “ربيعة”؛ تترك بيْتها في القرية المُجاورة للمدينة وتلتحقُ بِبَيْت ابْنِها، تُلازِمُ كنَّتَها خوْفاً عليْها… “مليحة” ضعيفة البِنْية، مريضة بالرّبو؛ وهي التي اسْتنْشقتْ دُخانَ الحرْب منْذ وِلادتِها…
كان يتفقّد القِدْر الكبير؛ عندما اهتزّ المَطعمُ كله على وقع زلزالٍ عنيف… الجدران الراسية تتمايل، الأواني تتدحرج، سقطت ثريا صالة المطعم الواسعة، انهارت الرّفوف، تساقطت الستائر، تصادمت الكراسي بالطاولات، شرارة كهرباء تنبعث من الرّواق المُؤدّي إلى دوْرَة المياه… صُراخ العُمّال والعامِلات وهُمْ في اندفاعٍ تّجاه الباب الرّئيسي للمطعم، رئيس الطباخين يفتح باب النجدة، ينظر إلى “عبد الله”؛ فيجده مذهولا، مصدوماً وكأنه يتفرّج على أحد أفلام الكوارث الطبيعية… يُناديه… لا يسْمعه… يذهب إليْه في مُحاولة لِجرّهِ إلى الخارج… غير أن عمودا برونزياً كان يُزيّن أحد الجدران؛ يسقط فيُصيبُ رئيس الطباخين على رأسه… يجفل “عبد الله”، تشخص عيناه، يجري بعد أن رأى دماء رئيسه تسيل بين قدميه…. يجري ليخرج… يسقط فوقه إطارٌ فِضّي سَميك؛ لصُورَة بحْرٍ هائج…
عندما فتح عيْنيْه؛ أبْدَتِ الممرّضة غِبْطتَها بعودته إلى الحياة… أخْبَرتْه بأنّه أُصيب في زلزال المدينة الأخير، وأنّهُ ظلّ في غيبوبة لمُدّة أسبوعٍ كامل… تحسّسَ الضّماد على رأسه، شعُر بدوخة…سأل إن كان أهله قد علموا بوضعه…إن كانوا أتوْا للاطمئنان عليه… فكّرتِ الممرّضة قليلاً؛ ثُمّ أعلمتْهُ بِقُدوم شخْصَيْنِ البارحة، ولا تعلم غير ذلك؛ فالمُمَرّضة مُحَوّلَة من جناح آخر؛ إلى هذا الجناح انطلاقاً من صبيحة الأمس…
بدأ يترقّبُ موعد الزيارات…مرَّ يوْمٌ… يومان…ثلاثة أيام…لمْ يظهرْ أحد…! إلى أن كان اليوم الرّابع… حضر الشّخْصان… ابتسمت الممرّضة واستدارتْ إليهِ تُشير بيدها إلى الوافديْن…. صعقتْه الدّهْشة… إنّهما : “نوري” و”ميمون”.. كان قدْ تَعرّف عليهما من قبل، باعتبار متْجَر “نوري” هو المُمَوّل الرّئيسي لحاجيات المطعم الذي عمل فيه… كان يذهب كل يوم سبْت في سيارة المطعم؛ مع رئيس الطباخين؛ لإحضار المطلوب. توطّدتِ العلاقة بينه وبين “نوري” صاحب المتجر والمُساعد “ميمون”… ثلاثتُهُمْ، وجدوا في بعضهم البعض؛ الودّ الصافي…
أعْطابُ الرّوح….
شعُرَ “عبد الله” بأريحية كبيرة وهو ينظر إلى صاحبيْه… سعِدا برؤيته من جديد وهو على أعتاب الشّفاء…. سألاهُ إنْ كان يعْرِفُ شيئاً عن موعد خروجه من المستشفى… جاء دورُهُ وسأل: “ما أخبار عائلتي وجيراني..؟” تفاجأ الرّجلان… حاولا تغيير الموضوع… تدخّلت الممرّضة؛ تُعْلِمُهُما بانتهاء وقت الزيارة… تنفّس الرّجلان الصُّعَداء، خرجا دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة…
شعُر “عبد الله” بانقباضٍ في صدره، ضاق تنفُّسُهُ، تهاوى رأسه إلى الوراء.. سارعت الممرّضة إلى مساعدته، نادتْ طبيب المُعايَنَة، فحَصَه، أمر بِحَقْنِه، وبترْكه يستريح…
بعد يوميْن؛ جاء صديقاه، “نوري” و”ميمون”، تفاجآ بِخُلُوِّ السرير… نطقا معاً وفي وقْتٍ واحد : ” أين المريض؟!” أخْبَرَتْهم المُنَظِّفة وهي تُعَقِّمُ الغرفة؛ بأنه غافَلهُمْ وخرج أمس؛ دون أنْ ينْتبهَ إليْه أحد، ودون إذنٍ من الطبيب…
كيف خرج من المستشفى بِلِبَاسِ المرْضى…؟ كيف وَصَل إلى بيْته…؟ مَنْ أوْصَله…؟! تساؤلات؛ تجاوزَتْها أعْطابُ الرّوح المُمَزّقة؛ أمام دَمارِ اللحظة… شهق: أيْن البيْت؟! أيْن ساكِنوه؟! أيْن … أيْن … الحياة…!
أكْداسٌ مُكدّسةٌ من الحجارة والأتْرِبة… أعْمِدة مُنْهارة…غُبارٌ يحْجُبُ آثار دِماءٍ يابسة… لعلّه تخيّلَ أنيناً تحْت الأنْقاض… بدأ يضرب بِيدَيْه ورِجْليْه الضّعيفتيْن الأرْضَ التي سرقتْ منْهُ كل شيء… بكى… وبكى معه الحَجَر وما تبقّى من الشجَر…!
كانتْ تلك اللحظات؛ آخرَ لحظات الوَعْي بالحياة…. بالنّاس… بالإحْساس…!
أمامَ مِرْآة الحلّاق، انْهمرَتْ دُموع ساخنة؛ بَلّلتِ الوجْه الجديد…. تَلاهَا عناقٌ حارٌّ بيْنه وبيْن “كريمو” الخبّاز…
كان لسان حاله يُردّد: شكراً “كريمو” مُوقِدُ الشموع في الزوايا المُظلِمة…. شكراً “كريمو” زارِعُ النَّجَاة في جوْفِ الصُّخورِ اليابسات….
عناق… فرَح…. أهازيجُ شباب الأزقة…. قهوة وشاي…. وليل طويل مع أطباق الكسكسي الذي غمرتْ رائحته البيوت الصغيرة، وأبتْ إلا أن تخرج إلى الأزقّة….تُداعب الأنوف قبل أن تستقرّ في البطون….
سيدي بلعباس / الجزائر

1