حين تحرك ايثري من مكان غرفته العلوية، انتصر للموت وخاطبها استدارة نحو الفراغ الزماني بالقول، معظمنا يتنفس برئات فاسدة، لا تنتج حتى أكسجين الحياة، وممكن حتى من أحشائنا التي توقظ نار الفساد والموت. حين نظر إلى الأسفل السحيق، اكتشف أن الأبعاد التراتبية الاجتماعية ما هي إلا مظاهر للظن والتصنيف، ونعمة سيادة التحكم. اكتشف أن الجميع يقف في مواضع مختلفة وبأعداد غير متناهية ولا منسقة، عرف أنها الفوضى الآتية من سوء الترتيب غير العادل، تعلم أن وضع العشوائية لن يتمطط اتساعا وممكن أن ينفجر مدويا من الداخل في أية لحظة، إنها كفايات إيثري الحياتية لتفسير مفاجآت المستقبل ولن تكون قاعدة خبر صادق بالحتمية.
يشعر إيثري بالتعب ويتحرك قدما، رغم العجز الذي يسطر على أطرافه النفسية، ويمتلكه سيطرة على تفكيره وذاكرته. معادلة فكرة الحرية بكونها راسخة في مخيلة إيثري فإن ماتت بالإهمال فهو يعلم علم اليقين أنه سيموت بعدها بالقرب الزمني والمكاني معها، هو يعلم أن الملاك الناصر له سيتخلى عنه ويسحب أيدي الدعم عنه، يعلم أنه سيموت حسرة و ألما، دون حاجة إلى خدمة مجانية من ملك الموت.
لم يكن يعلم إيثري من المتسع الزماني غير التمييز بين لفظ الماضي والحاضر والمستقبل، فهو ألف من المتصل الصرفي التلاحق مثل كوكبة نمل آتية ومحملة بذخيرة متنوعة، وممكن أن تحمل حتي الشر لمملكة النمل من بقايا فساد سائد، فقد ألف النمل يورد إيثري ، أن يحمل جروح أنفة الشرف وعدم الوفاء الطيع لإكراهات واستبداد الحياة. لكن إيثري في ختم كلامه نحو الفراغ الخاوي ، أكد أنه سيبقى يحمل تعيين معنى “أنا ” الزماني الدال على ضمير المتكلم. شاهد عند النمل أن الولاء لتحصين غار المملكة يتقوى عند الأنفس العاملة غير المنكمشة في خدمة ذاتها بلا هوادة.
لأول مرة يسترق إيثري السمع من مملكة النمل مثل سليمان قبل حوافر خيول جنوده، لأول مرة يجد أن النمل يتحدث مثل الإنسان بالتبرير وسياسة التسويف القاتلة و تعيين هلامية الخير القادم، لأول مرة يتعلم من النمل أن الشرف يولد داخل الجميع سواسية، لكننا نصنع رقعة شطرنج للعب وترك فسحة للشاه بالفوز.
حين استمع إيثري بالتمهل والإنصات إلى حكم مملكة النمل وقف نهوضا، حين شاهد بألا أحد يقترب من النمل الجشع و صانع الغرور الطموح الزائد، علم بالفطرة أنهم في خدمة مماثلة لمصالح القائدة الحاكمة لهم، ومن هذه الحكمة عمم إيثري الدعوة إلى بني الإنسان بعدم الأسف عما يفعل وما سيفعل به أصحاب الغرور المتزايد في المتصل الزماني الحاضر والمستقبل.
من جميل الصدف حين التقط إيثري إشارات من صم عموم مملكة النمل، حين تجاهلت تلك الفئات العريضة الحديث واكتفت بأنها لا تفقه شيئا غير لغة الصمت، فهو حكمة من السلف ومن تبعهم بالصمت والموالاة.
تتحرك أمواج سلطة النمل جيئة وذهابا، وممكن أن تستخف بالركد والوثب، لكنها في الأخير ترتطم بالصخر الذي يجرح أنفة الشرف فترتد زبدا هشا رقيقا خاوي الوفاض نحو معاودة الكرة عدة مرات، ولما حتى غرس أمل البداية. إنها رؤية الاشمئزاز التي امتلكت نفسية ايثري وحركت فيه صيغة المطالبة بالمستقبل العادل، إنه صوت الأمة الذي يود العيش الكريم في مملكة نمل ذات المفارقات الاجتماعية.
في عمليات تجسير فجوة حياة النمل المستقبلية والحد من الفوارق المتفاقمة، ممكن أن تسقط العدالة الاجتماعية إلى الهاوية وتنكسر هذه المرة ولا تحتاج إلى ترميم غير جبيرة الفوضى. في مملكة النمل هناك من يفكر، ومن يقوم بالأعمال الشاقة، ومن يستلذ بطيب حسنات الحياة ومن يعيش عيش الذبابة في “البطانة”.
حين تحرك إيثري من مكان استراقه السمع من شبكة مملكة النمل، انتصر للحياة هذه المرة، وخاطبها حين استدار نحو العقول المفكرة بالقول، هي التجارب علمتنا ألا نتق في المنعرج الغائر، علمتنا أن ” طريق السد تتدي بلا مترد”.
فصل من رواية ويلات ذاكرة حالمة: مملكة النمل!!
بقلم : محسن الأكرمين ... 16.08.2019