أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
رواية قيامة البتول الأخيرة ..للروائي السوري زياد كمال حمامي حرب الروائي مع شخصياته المتمردة!!
بقلم : أحمد وديع العبسي ... 12.05.2019

لا أعرف كيف يستطيع الروائي أن ينسج بين الواقعي والرمزي والملحمي والتراجيدي والمأساوي بهذه الطريقة المميزة، يوظف كل بنى السرد لخدمة فكرته وقضيته والانتصار في حربه ضد خصومه الذين مُلأت الرواية بهم. وكأنه يريد أن يرسم واقعاً يستطيع أن يكمل به حياته بعد خذلان الواقع الحقيقي.
لا شك أن الروائي زياد كمال حمامي قد عانى ما عاناه من حرقة وألم وهو يكتب الرواية ويستعيد الذكريات ويعيد تشكيلها كلوحة فنية فريدة تحكي الأفول والدمار والموت، والمواجع والآلام والاغتصاب والخيبة والفاجعة والرثاء.
تبدأ الرواية بمباشرة القارئ بمضمونها، وكأنها تريد الإعلان عن نفسها والكشف عن مخبوآتها منذ اللحظة الأولى كموجز سردي بسيط، ولكنها سرعان ما تبدأ بالاستعصاء على قارئها وإجباره على الولوج إلى عالمها الخاص ومحاولة سبر أغوارها، والكشف عن مكنوناتها، ليصير جزء منها ويتفاعل مع كل ما يعتمل في عالمها.
يبدأ الروائي برسم صفحاته الأولى كلوحة تشكيلية رمزية، تستفزّ النقاد والقرّاء عندما تفسر كل جزء منها بلوحة أخرى تحتاج قراءة متأنية واكتشاف لطيف من أجل فهم عالم الرواية وعالم شخصياتها وأحداثها وزمانها ومكانها، الذي يتقن الكاتب رسمه بخبرته كسيناريست، فيصور كل شيء بدقة وبلغة رمزية وظيفية تخدم أحداث الرواية وأنساقها التعبيرية، وليس مجرد تصوير إبداعي غايته الإبهار البصري.
تلح حادثة (العار) ، في الحي اليهودي، ذاكرة (عبد السلام) بطل الرواية الذي يصور الكاتب حارة (البندرة)، الذي تقطنه مجموعات من مختلف الطوائف والأديان، بكل شخوصها،المتمردة، تصويراً دقيقاً يخدم بنيتي السرد أو عالميه اللذان سأتحدث عنهما لاحقاً، إلحاحاً يطرق رأسه بقوة كإزميله الذي يطرق به على الحجر وهو يعيد تشكيل تمثال (الحرية) معلناً حالة المواجهة الأولى في الرواية ومستعرضاً جميع شخوصها وأحداثها.
وتظهر صورة البتول المغتصبة بفعل الحرب من الصفحة الأولى لتحتضن كل الذين يدافعون عنها ويعملون من أجلها وتباركهم، وكأنها الأرض برمزية من تجذر بها ورفض أن يخونها وأقسم على حمل أمانتها والحفاظ على تاريخها وصناعة مستقبلها، تؤنب كل الذين لم يعترفوا بحبها، كل الذين تخلوا عنها وتركوها لمصيرها الذي بدأ بتكوين مصيرهم، ولن تعود الأمور إلى نصابها حتى ينقذها الجميع وينتقموا لها، فينقذون أنفسهم.
اختار الكاتب اسم البتول، بكل رمزيته التي تدل على الانبعاث والخصب والعذرية والاحتضان والرسالة والسلام ليجعلها أيقونة الملحمية في الرواية، ويجعل جميع شخوص الرواية وأبطالها يدورون حولها وكأنهم يدورون حول مدينتهم، حول حلب التي يعشقها الكاتب ويريد تخليصها بعالمه الروائي من كل الذين ألحقوا بها الأذى والمكيدة وأبعدوه عنها، لذلك نرى أنه يرسم الصحوة بين الفينة والأخرى في الرواية، وينتقم من أعدائه بقتلهم أو إفشال خططهم، وكأن الكاتب في حرب مع شخصياته، يحاول السيطرة عليهم وإخضاعهم لمنطق السلام والقيم الذي يُحب، وهم الأشرار الذين يتمردون عليه، فيواجههم بالشخصيات الأخرى التي تضع لهم حداً، فإذا كان هذا لا يحدث دائماً في الواقع الحقيقي، فلن يسمح الكاتب أيضاً للواقع الخيالي بهزيمته وهزيمة القيم الفاضلة.
مثل صحوة يحيى وعبد السلام وقرار ألين بالبقاء، وقتل الجقجوق (مغتصب النساء الموتى)، وهزيمة أبو جمرة وأبراهام وأم القطط … وغيرهم، بل إنه يستعين أحياناً بأنسنة الحيوانات لتكون جنوده في حربه، الحيوانات بطبعها البريء الذي لا يعرف المكر والخديعة، يوجهها لتشترك معه في كشف الشر وزيفه، كما حدث مع الكلب (ميمو) مراراً، الذي هو من يكشف الجقجوق ويخلص الحارة من جريمته البشعة.
بين الفينة والأخرى يصيح الروائي على البتول يوقظها يأتي بها، يجعل الآخرين يشاهدونها، تظهر في أحلامهم وكوابيسهم، يعلن أنها لن تموت أبداً، وكيف تموت وهي الأرض والحلم، والأحلام لا تموت إلا بموت أصحابها، والأرض لا تموت إلا بموت حراسها، وهؤلاء لا يموتون ولا ينتهون وهم في كفاح مستمر لاستردادها جيلاً بعد جيل.
الرواية بين شخوصها وصورها وسردها تنفتح على عالمين معاً، وفي كل عالم تجري قصة تتماثل مع القصة الأخرى، عالم الحكاية، والذي يجري فيه السرد ضمن الواقع الروائي التخييلي المحدود بالزمان والمكان، والعالم فوق الحكائي، أو العالم الرمزي الذي تتضافر فيه الرموز لكي تكشف نظرة الكاتب للعالم، فنجد الحرية والسلام والبعث والقيم وأقاليم العالم ومؤسساته الدولية والأرض والقوى العظمى والدول الإقليمية والنخبة المتنفذة والتاريخ المفقود، كلّها نجدها في نسق تعبيري خاص تتفاعل وتظهر في أجزاء الرواية لترسم إطاراً روائياً آخر يؤثر في أحداث الرواية وعالمها السردي الواقعي بطريقة غير مباشرة بين الفينة والأخرى.
تظهر في القسم الأخير للرواية صورة الوباء الذي يجتاح المدينة ثلاث مرات محاولاً دق ناقوس الخطر وتنبيه أهلها إلى وجود عدو خارجي يتهددهم جميعاً عليهم أن يتوحدوا لمواجهته، دون جدوى، يتخيل عبد السلام حارته وكأنه يتخيل وطنه الكبير، واقعه العربي المؤلم الذي أهملته كل الحكومات فيه، فصار اللصوص ينتهبونه ويحيكون له المؤامرات ويدمرونه، وكل شيء قد خطط له بدقة كما قال أبراهام اليهودي.
الرواية ذاخرة بالفن التشكيلي والصور الجميلة التي تحتاج رويّة في القراءة لكي تستطيع الإمساك بمعانيها المتعددة التي تبقى مفتوحة على قراءات أخرى ودلالات جديدة يوفرها الطابع الرمزي الذي اصطبغت به فتتجدد باستمرار مع كل قراءة واعية. وفي هذا السياق لا أنكر أن الرواية أتعبتني وأنا أقرأ وأعيد لكي أستطيع فك شيفرتها وفهم رموزها، فالشخصيات مثلاً تظهر مع كل عوالمها دفعة واحدة فترى الكاتب يسهب في وصفها ووصف ما يحيط بها في كل مرة يستحضرها لكي يرسم العالمين اللذان يعبر عنهما في نسقه الروائي.
من الناحية الفكرية يظهر تمجيد الروائي للقيم الفاضلة والحرية، ويلعن الفساد والحرب، فالحرب بالنسبة له لا يمكن أن تكون حلاً على الإطلاق، وخاصة في شكلها الفوضوي الذي وصلت إليه الثورة بلا وعي ولا قيادة، وقد انتجب استبداداً جديداً وخراباً كبيراً، ويعلن ذلك على لسان بطله (عبد السلام) الذي يقول: “لا سفينة بلا ربان ولا ثورة بلا قيادة وهدف واضح”،
الحب في الرواية حب مضطرب، متردد بين التقاليد والعاطفة كما في قصة (يحيى والبتول)، بين العشق الخالص، والنزوات والمصلحة والأنانية، كما في علاقة سوزانا الكندية اليهودية التي تعود أصولها إلى حلب وبين عبد السلام، وبينه وبين (ليزا) اليهودية، التي أحبها بصدق، ولكن تغيرها الذي عبّر عنه بقوله: “مشكلتي معها ليست دينية، المشكلة أنها تعبد المال والسيطرة، وأنا لا أستطيع أن أعبد ما تعبده” جعله لا يخضع لهذا الحب. لذلك وصف الروائي كيف أنها مالت بقلبها إلى (جاك) الصائغ وتاجر المجوهرات الأكبر في المدينة.
هذا الحب غير الحقيقي هو الذي أوقع عبد السلام ضحيةً للعالم السرّي الذي يحاول السيطرة على كل شيء ولا يعبد أصحابه سوى المال (أخوة الحليب) أو عبدة الشيطان الماسونيين، أوقعه مرتين، مرةً عندما تمّ تصويره مع سوزانا، ومرة عندما ضعُفت نفسه فاستسلم من أجل حبّ ليزا وخوفاً من الفضيحة. ولكنه أعلن قيامته الخاصة، عندما استعاد صوت (الثريا) صاحبة البصيرة وهي تقول له: “لاتكن وصمة عار، تحرر، ابحث عن الحبّ الأعظم”.
المميز جداً في الرواية هو القدرة الهائلة لدى الكاتب في توظيف جميع تقنيات السرد لخدمة أهدافه وعالمه الروائي، فالرمزية التي تمتلئ بها الرواية تضعك في اجواء العالم الماسوني ورموزه وكأنك داخل إحدى الأساطير القديمة وأناشيدها السرية.
في النهاية ستخرج الرواية عن توقعات القارئ، ولا أريد هنا أن أفسد متعته في هذه اللحظة، ولكني سأكتفي بصورة السلام التي يرسمها الكاتب ببطله الذي ينحت تمثال الحرية، وكأن الحرية أمر صعب المنال في عالم كالذي نعيش فيه، فهي كالنحت في الصخر الأصم في واقع استبدادي مريع، يحتاج الكثير من التعب والمشقة والصبر والعرق والتضحية، والسلام هو من يصنع الحرية في النهاية لا الحرب.
السلام لا يخون كما تفعل الحرب، وأصحابه يضحون لإنقاذ تاريخ المدينة وتراثها وهويتها من أعدائها التاريخيين الذين دبروا كل شيء وأوقعوا الفتنة بين أهلها، يندفع (عبد السلام) غير مبالٍ بالموت الذي يترصده، يقتحم أسوار الخوف بكل شجاعة وإصرار، تتردد في أذنيه وصية أبي الرمز الفلسطيني “إذا كان لابد من الموت فلنمت تحت الضوء لا بين أنياب العتمة”
* التعريف بالكاتب
أحمد وديع العبسي.
كاتب و روائي و ناقد سوري، ومدير عام صحيفة حبر السورية .
مجاز في اللغة العربية ويدرس ماجستير في العلوم الاجتماعية،
حاصل على شهادة دبلوم في التأهيل التربوي من جامعة حلب

1