أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"بين مدينتين" وفتحي فوراني الأديب والإنسان!!
بقلم : رباب سرحان ... 04.02.2019

لا نستطيع أن نتحدّث عن فتحي فوراني الأديب والكاتب بمعزل عن فتحي فوراني الإنسان. وربّما عدم إمكانيّة الفصل هذه، بين الأديب والإنسان، هو ما يُميّز فتحي فوراني عن الكثيرين غيره من الكُتّاب والأدباء والمحاضرين. وكم تسعدني مشاركتي في هذه الأمسية الخاصّة بأديب بحث مرّة عن رباب سرحان هذه، من تكون؟ بعد أن قرأ مقالة لي كنتُ قد نشرتها في صحيفة الاتّحاد. فجاء صوته عبر الهاتف هادئًا، رزينًا، دافئًا، صادقًا يُشجّعني على الاستمرار في الكتابة على هذا النّهج. فخجلتُ كثيرًا وفرحتُ كثيرًا، وكم كنت أحتاج وقتها لكلماته تلك. فشكرًا أستاذي. شكرًا كبيرة وعميقة وصادقة لشخصك المحترم، ولكونك أديبًا كبيرًا يُدرك أنّ التّشجيع والدّعم المعنويّ له تأثيره على كلّ كاتب وشاعر وناقد وأديب في بداية مشواره الأدبيّ. شكرًا لأنّك لم تبخل عليّ بالكلمة الجميلة الدّافعة.
إلى السّيرة:
"بين مدينتين" هي سيرة ذاتيّة للأديب والكاتب فتحي فوراني. والسّيرة الذّاتيّة، بصفة عامّة، هي تعبير عن رغبة صاحبها في قهر الموت والانتصار عليه. وكاتبُنا أبى أن يرفع الرّاية البيضاء وانتصر على السّكتة الدّماغيّة التي تربّصت به وأوقعته في شراكها فكاد يروح في داهية، على حدّ تعبيره. هذه التّجربة المفزعة المرعبة مع الموت كانت سبب خروج "بين مدينتين" إلى النّور.
في سيرته يرتدّ فتحي فوراني للماضي، يستحضره ويسترجع أيّامًا مضت. فينتشل من الذاكرة أحداثًا ومواقف وذكريات يوزّعها على ثلاث مدن أو محطّات: صفد، النّاصرة وحيفا. ذكريات صفد يسترجعها من خلال كلام الآخرين عنها. أمّا النّاصرة وحيفا، فكلّ مدينة منهما تُشكّل مرحلة من مراحل حياة الكاتب، تحمل ما يُميّزها ويُبقيها عالقة في الذّاكرة. وإذا كانت الأحداث التي كانت في الماضي تدفع الكاتب لاستعادتها بتفاصيلها من الذّاكرة، فإنّ واقع السّارد الحاضر وثقل هذا الزّمن الحاضر الذي يعيشه، يدفعه للانتقاء من هذه الأحداث التي يسترجعها من الماضي بما يتلاءم مع واقع حاضره.
يقول الكاتب: "صفد هي المدينة الضّائعة.. هي الفردوس المفقود.. وهي الشّوق.. وهي الحلم المشتهى!". فصفد، كما تُصوَّر في السّيرة، هي المدينة التي ينتمي إليها الكاتب ومسقط رأس والده وأجداده. وهو لا يتذكّر شيئًا عنها "فضباب الطّفولة يخيّم على ذاكرة الصّبيّ". وقصّة تهجيرهم عنها عام 1948 هي قصّة الشّعب الفلسطيني الذي طُرد من بيته وأرضه وسُلب حقّ الحياة الكريمة. ويكون المشهد المؤلم القاسي الذي يُصوّره الكاتب، حين يعود الأهل إلى المدينة ليجدوا أنّ معالمها قد تغيّرت وتمّ محو كلّ ذكر للوجود العربيّ. ليجد والدُهُ نفسَه غريبًا في أرضه، فينزرع الحزن في قلبه ويحرقه الشّعور بالظّلم ويرفض الخضوع للحقيقة المرّة ويأبى تقبّل الواقع القبيح فيُصرّ: " لقد ولدت هنا. هذا البيت لي! هذه اللوزة لي! وهذه البئر لي! وهذا الهواء لي! هذا هو بيتنا.. هنا ولدت! ومن هذه البئر شربت".
هكذا، تُمثّل مدينة صفد للكاتب البيتَ والأرضَ والوطن الصّغير الذي سُلب منهم ليصبحوا لاجئين في وطنهم.
وكانت النّاصرة المدينة التي احتضنت الكاتب والأهل بعد النّكبة. فيها كَبُر فتحي فوراني وتعلّم وعاش فترة شبابه الأولى. هذه المدينة التي أحبّها الكاتب وتعلّق بها، فكان يعرف معظم سكّانها تقريبًا، يعرفها كما يقول: "بيتًا بيتًا وعائلة عائلة وشخصًا شخصًا". في النّاصرة بدأت شخصيّة فتحي فوراني الاجتماعيّة والأدبيّة تتشكّل مع أبناء جيله من الشّباب الذين أنهَوا دراستهم الثّانويّة، نذكر منهم محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وتوفيق فيّاض وأحمد حسين وجورج قنازع ومحمد علي طه ووليد الفاهوم وغيرهم الكثيرين ممّن شكّلوا أيّامها المشهد الثّقافيّ والأدبيّ، يجمعهم الحلم المشترك: عشق اللّغة العربيّة وحرارة الانتماء إلى التّاريخ العربيّ والقضيّة الفلسطينيّة. وقد نجح كاتبنا في تكوين صداقات وبناء علاقات طيّبة مع كوكبة من محبّي الأدب والمهتمّين به ممّن برزت أسماؤهم ولمعت في السّاحة الأدبيّة والثّقافيّة، والذين كان لهم، بالإضافة إلى زملاء الدّراسة، الأثر الأكبر على توجّه كاتبنا الفكريّ وعلى تشكّل شخصيّته الأدبيّة، ليصبح فيما بعد كاتبًا وأديبًا معروفًا وبارزًا في السّاحة الأدبيّة والثّقافيّة.
يُحدّثنا الكاتب بإسهاب عن عشقه للّغة العربيّة وشغفه بالمطالعة، وعن كتاب ألف ليلة وليلة الذي فجّر داخله ينابيع الشّوق والاندفاع إلى عالم المطالعة. فيخبرنا كيف كانوا يقرؤون للمتنبّي وأبي فراس الحمدانيّ والجاحظ وابن خلدون وللشّعراء نزار قباني وفدوى طوقان وإبراهيم طوقان وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وسلمى خضراء الجيوسي وبدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم الكثيرين من الكتّاب والشّعراء، وكيف كانوا ينسخون دواوينهم بخطّ اليد وبقلم الحبر السّائل. فما أن يسمعوا بكتاب قادم من بيروت أو القاهرة حتى ينقضّوا عليه يقرؤونه بشوق ولهفة.
إلاّ أنّنا، وبقدر ما في استعادة هذه الذّكريات من فرح وفخر، نلمس هذا الحزن الهادئ العميق، وهذا الحنين الجارف إلى ذلك الزّمن الجميل والماضي النّاصع، وهو يعيش هذا الحاضر بكلّ عبثيّته وتخاذله وعنفه وتملّقه وادّعاءاته وانكساراته وكذبه، فيصير ذلك الماضي زادًا أو كما يقول "مخزن قوّة نمتح منه لنصبر على هذا الزّمن الرّديء".
"سقى الله أيّام زمان" جعلْتَني أُردّدُها معك أديبنا العزيز وأحنّ إلى زمانكم الجميل. زمان الطّيبة والتّسامح والألفة والمحبّة، زمان الأدب الحقّ، زمان القامات الأدبيّة الكبيرة، زمان كان الأديب أديبًا والشّاعر شاعرًا. أمّا اليوم أستاذي فالأدب يُغتال كلّ يوم والشّعر، مسكين هو، يستنجد ويستصرخ وقد كَثُر مُدّعوه والأصحّ مُدّعياته، فنستعيد ما قاله نزار قبّاني ونتحسّر:
"والشّعر ماذا سيبقى من أصالته؟ إذا تولاّه نصّاب ومدّاح؟"
هكذا، استعاد الكاتب الأيّام البعيدة في النّاصرة وسط الأهل والأحبّاء والمعارف والأصدقاء المميّزين من أهل الأدب والثّقافة والإبداع، وبين المواقع التي شبّ عليها وعرفها، وكيف بدأ يُثبّت خطاه في السّاحة الأدبيّة والثّقافيّة. حتى جاء اليوم الذي قرّر فيه الوالد أن تنتقل الأسرة لتسكن في مدينة حيفا، حيث يكثر المعارف والأصدقاء، وكان ذلك عام 1963. هذا الانتقال لم يكن سهلاً أبدًا على فتحي فوراني وقد تعلّق بالنّاصرة وارتبط بها روحًا وجسدًا، حتى أنّه اعتبر تركه للنّاصرة "عمليّة اقتلاع ونكبة ثانية!". الأمر الذي يُؤكّد هذه العلاقة الوثيقة بين الإنسان والمكان ممثّلة بالتصاق الكاتب وتعلّقه بالنّاصرة وشعوره بالانتماء إليها.
في حيفا واجه فتحي فوراني هموم الحياة، وكان عليه البحث عن عمل. فعمل موظّفًا في البنك واستطاع باجتهاده ومثابرته أن يكون الموظّف المتميّز، إلاّ أنّه سرعان ما قدّم استقالته بعد أن طالته أيدي الحُسّاد وطعنته في الصّميم. وكم تكون الطّعنة قاسية حين تأتي من أقرب النّاس إليك، فتشعر بغصّة في القلب وينكسر شيء ما لا تعود لملمة أجزائه ممكنة. فنتذكّر قول الشّاعر: "وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّد".
هذه التّجربة المؤلمة جعلته أشدّ إصرارًا على تحقيق حلمه في الالتحاق بجامعة حيفا ليدرس موضوعي اللّغة العربيّة وتاريخ الشّرق الأوسط. مع العلم أنّ هذا الانشغال في العمل والدّراسة لم يُنس فتحي حبّه للكتاب ولم يثنه عن إقامة علاقات مع العديد من الكتّاب والشّعراء والمثقّفين الذين كانوا يزورونه في غرفة المكتبة الخاصّة به ويُقيمون هناك اللّقاءات الأدبيّة.
يعترف فتحي فوراني أنّه اكتشف نفسه في مهنة التّعليم وآمن أنّه حامل رسالة سامية، وأنّ عليه واجبًا تجاه مجتمعه وشعبه يقتضي النّهوض باللّغة العربيّة وترسيخها في نفوس الأجيال الصّاعدة، والتّصدّي للسّهام المصوّبة إلى هويّتنا الثّقافيّة. فحمل الرّسالة عن قناعة ومحبّة ونجح في بناء أجيال مسلّحة بالوعي والعلم والمعرفة والكرامة على امتداد سنوات عديدة جاوزت الثّلاثين عامًا، عمل فيها مدرّسًا للّغة العربيّة وآدابها في الكلّيّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا.
فتحي فوراني يعتبر طلاّبه ثروته الأكبر ويرى فيهم حلمه المتحقَّق واكتفاءه الذّاتيّ. يقول:
"حيثما تذهب في ربوع هذا الوطن وفي الخارج، تشاهد بصماتك الخضراء منقوشة ومحفورة عميقًا في وجدان الأجيال. تنظر إلى مواكب الأجيال الصّاعدة إلى العلا.. فتشعر بالرضا عن النفس.. ويملأ القلب فرح طفوليّ غامر.. تنظر إليهم كما ينظر الفنان المبدع مستمتعًا حين تستريح ريشته من رحلة العذاب الجميل، وينتهي من رسم لوحته الزاخرة بعالم من اللمسات الفنية المدهشة. تنعم النظر في هذا الإبداع الذي يخلب الألباب.. فيمتلئ القلب فخرًا واعتزازًا وكبرياء".
هكذا، توزّعت حياة الكاتب بين مدينتي النّاصرة وحيفا وفيهما تكوّنت شخصيّته بجوانبها الاجتماعيّة والسّياسيّة والأدبيّة والثّقافيّة.
فتحي فوراني في كتابه هذا يأخذنا في رحلة استكشاف ممتعة مشوّقة عبر لغته الجميلة الرّقيقة الجاذبة والتي تعكس ثقافة الكاتب الواسعة، وتُبرزُ قدرتَه على تكييف القديم للواقع الحاضر من خلال توظيف التّناص وتضمين الكتاب أبياتًا شعريّة من الأدب القديم، ينجح في ملاءمتها للحاضر وإدراجها في سياقه.
فتحي فوراني في سيرته وفي الحياة إنسان هادئ، وقور، مثقّف، مُحبّ لكلّ النّاس وملامح وجهه تشعّ طيبة ومحبّة.
"بين مدينتين" تجربة حياة غنيّة ومثيرة وصورة للمجتمع الذي عاش فيه فتحي فوراني وعمل على التّأثير عليه والتّغيير فيه، وترك بصماته على كلّ مكان شغله.
في الختام أقول للأديب فتحي فوراني: كتبتَ "حكاية عشق" وفاءً وإخلاصًا وتقديرًا لأشخاص علّموك ودرّسوك. أترى طلاّبك هنا؟ لقد أتَوْا وفاءً وتقديرًا لمن علّمهم، للأستاذ فتحي فوراني الذي يحتلّ حيّزًا كبيرًا في حكايات عشقهم. فهنيئًا لك هذا التّقدير وهذه المحبّة وهذا الوفاء.
(نصّ المداخلة التي أُلقيت في أمسية تكريم الكاتب فتحي فوراني وإشهار كتابه "بين مدينتين"، في عسفيا، بتاريخ 25.1.2019، برعاية دار الحديث للنّشر والتّوزيع وصاحبها الشّاعر والكاتب فهيم أبو ركن).

1