أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
قصص من ذاكرة إمرأة ( عروس لتحسين )!!
بقلم : عدوية السوالمة  ... 10.11.2018

الاستعدادات لاستقبال تحسين كانت تجري على قدم وساق داخل منزل ليلى وسعيد المنتظرين قدومه بفارغ الصبر من ألمانيا , فقد كان ابنهما البكر, أنجباه بعد خمس سنوات من زواجهما الذي طغت فيه خلافاتهما على كل شيء جميل يمكنه أن يشعرهما بالسعادة .
تعاسة رفضا التخلي عنها بالانفصال حتى بعد سفر أبنائهما الثلاثة إلى الخارج . فبالنسبة إلى ليلى هي مثل الكثيرات فضلت البقاء في ربوع تعاستها حتى لا تعاني من شماتة الأخريات من حولها , و اللاتي سينعتنها باستمتاع بالمطلقة وكأنه نوع من الجرب يجب الابتعاد عن المصابات به . علما أن إصابة الرجال بهذا النوع من الجرب يكسبهم حظوة لدى النساء وترحيب في محافل بني جلدتهم المتعاطفين هم وزوجاتهم وقريباتهم معهم على أمل أن يتم شفاؤهم بزوجة جديدة من مرشحاتهم .
الحال بالتأكيد ليس بهذا الترف للنساء فالمصابات به يصبحن العدو الأول لبني جلدتهن تهرب منهن الأخريات خشية الاقتراب من شركائهن أو شركاء قريباتهن فتمسي ( خطافة الرجالة ).
عدم الرغبة في الطلاق من قبل سعيد والتي كان منشؤها حوار ذاتي حول كينونة الحياة الزوجية التي لم يكن لموضوع الاحتواء والسكنى إلى الآخر أي نصيب لها في التواجد , وانما كان هناك تواجد مكثف للاعتبارات المادية فقط . فالطلاق حدث يطرح احتمالات انفاق عديدة لايرغب في التفكير بها فهو أفضل حال في وضعه القائم بلا أي مساءلة حول ضرورة الالتقاء الوجداني الذي ما كان يستطيع تقديمه في الاساس فقد كان انسانا مهشما عاطفيا لا يقوى على تقديم أي تقدمات عاطفية في علاقته مع الآخر لافتقاره لتجارب الحنو التي لم تمنحها له والدته في السابق والتي اتسمت تربيتها له بالقسوة والجفاف العاطفي كنتيجة لرحيل والده باكرا , معتقدة بضرورة الصرامة معه لاخراجه للحياة صلبا كباقي الرجال حتى لاينعت بابن الارملة .
كان خائفا من التقلبات المادية للحياة خوفا غرسته والدته في نفسه كأعظم شيء يمكن أن يصاب به بني البشر , فقد ترك لها زوجها بعد وفاته ارثا كبيرا من الديون جعلها تقدم على بيع البيت ومصنع الجوارب الصغير الذي كان مصدر رزقهم سابقا وتذهب للعيش في بيت والدتها المعدمة .
كان كل تفكيرهم ينحصر في تدبير لقمة العيش اليومية من خلال عملها أحيانا في مشغل للخياطة , وأحيانا في صالون لحلاقة السيدات . اضافة الى ما كان يجنيه سعيد من بيعه للأمشاط والعلكة ودبابيس الشعر في الاسواق الكبيرة بعد عودته من المدرسة .
كل شيء في سلوكنا ان لم يكن كنتيجة لخلل عصبي يجب ان يكون له أساسا ما سبق وشكله فلا شيء نولد به , كل سلوكاتنا متعلمة وتتبع منشأها هو المفتاح الحقيقي لمعرفة ذاتنا .
رغم أن سعيد كان سيئا بحسب تصنيفات سلم المعايير الاجتماعية إلا أنه في الحقيقة لم يكن أكثر من انسان يبدي تأقلما غير ناجح دفع ثمنه هو ذاته اولا فقد كان لديه داخلا فقيرا فتح عينيه على الحياة ليجد نفسه لاهثا وراء بضع قروش , منهكا يعمل تحت اشعة الشمس الحارقة متنقلا من مكان لآخر حتى يبيع ما لديه ليؤمن مصروفه في آخر النهار , لذا كانت الاعتبارات المالية فوق كل الاعتبارات فهي الأمان بالنسبة إليه وغير ذلك ترف يمكن الاستغناء عنه .
تأقلماته الغير صحية مع ظروف الحياة بالمجمل جعلته يهرب الى كل ما يتيحه النت للبحث عن علاقات غير مشروعة يشبع فيها رغبته في القبول غير المشروط بالشكل الذي يتخيله في أحلام يقظته مع فارق التجسيد بالصورة والصوت فكان هو الحل الامثل لاشكالياته الزوجية التي لم يعرف كيف يتعامل معها .
أما عن ليلى فكان ادمان عادة التشكي وندب الحظ والعراك مع الابناء أشياؤها الحميمة في مواجهة علاقتها الزوجية المدمرة . فقد كانت تنتمي لعالم عدم فعل شيء سوى النحيب والعويل فهو العالم الأكثر ازدهارا في مجتمعنا . يكفي أنه يعفي منتسبيه من مطاردة الاحساس بالذنب تجاه الذات لعدم محاولة فعل شيء, فكونهم ضحايا معاملة القدر الظالمة يرفع عنهم عبء المحاولة مستسلمين بكل رضى لتلك الاقدار مطالبين من حولهم دفع فاتورة فشلهم وتعاستهم الحياتية وهو ما كان يثير حنق أبنائها غير آبهين برغبتها أو رغبة والدهم في الاستمتاع بدور الضحية. الضحية التي يجب أن تستحوذ على شفقة من حولها وتحشد الجموع ضد الآخر الجلاد معتبرين ذلك وظيفتهم الوالدية المطورة عبر الزمن .
ممارسة طقوس التشكي الغير مرغوب فيها من قبل الابناء كانت تدفع بليلى للأحاديث المطولة مع والدتها التي كثيرا ما كانت تنتهز فرصة شكوى ابنتها من زوجها لتستعرض أمامها مدى حنكتها في الحفاظ على زوجها والد ليلى الذي كان أسوأ حال من سعيد برأيها ومع ذلك لم تترك له فرصة لتركها فقد كانت حياتها تتمحور حول هذا الهدف الذي كان في حقب سابقة يعتبر جوهر حياة المرأة تمارسه عن وعي ودراية فقد دربت عليه جيدا قبل الزواج عبر كورسات كيفية اسعاد الزوج وآليات نيل رضاه . حقب كان فيها الرجل الممول الوحيد لمشروع الاسرة وبالتالي يجب اقناع الممول بشتى الطرق بل والتفنن بارضائه حتى لا يتخلى أو يمول مشاريع أخرى قد تصل لاربعة مشاريع دفعة واحدة في حالات اليسر المالي . حاليا لم يعد الارضاء هدفا بالنسبة للكثيرات فقد أصبحن ممولات لمشاريعهن أوشركاء في التمويل ولكن لابد من الحفاظ على الزوج للقبول الاجتماعي في غالب الاحيان ليس أكثر .
في كل مرة كانت والدتها تخبرها فيها عن مدى سوء معاملة واهمال والدها لها كانت تستعد لانهاء قصتها بفخر المنتصر بقولها انظري الآن إنه الآن بين يدي كطفل صغير ينتظرني لاطعامه . فتجيبها ليلى بتذمر : أماه لقد عاد إليك حين أخذت قواه الحركية تخونه رويدا رويدا وأنا لا أريد أن أكون لسعيد الخادمة التي يحتاجها في عجزه حين ترفضه الاخريات . ومع ذلك ما كانت ليلى لتتركه . فهي بلا وعيها مازالت تحتفظ بنصائح والدتها الامية عن العلاقات الزوجية . و رغم أنها حظيت بتعليم جامعي مكنها من العمل كمدرسة رياضيات في المدرسة الثانوية للبنات إلا أنها مازالت تردد على مسامع ذاتها مقولة ( الرجل رحمة ولو كان فحمة ) معترفة بواقعية قائله .
لم تكن ليلى لتكتفي بشكوى واحدة بل كان عليها متابعة روتينها اليومي للشكوى من سعيد لصديقاتها اللاتي كن يؤثرن التصعيد وبالطبع النتيجة المرجوة من هذا الحديث لا يرادمنها أكثر من التخفيف والاحساس للحظات أنهن يمتلكن قوة وارادة وقدرة على رد الفعل وسرعان ما ينتقلن الى موضوعات أكثر أمانا وبساطة لا تضغطهن باتخاذ قرارات تدفع نحو المجهول مهما كانت صفته .
بعد سفر الأبناء اتسعت الهوة بين ليلى وسعيد حتى لم يعودا يجتمعا معا في المنزل إلا للحظات قليلة .كان كل واحد منهما يمارس طقوسه الحياتية منفردا غير راغب بمشاركة الآخر له ولم تعد المشاحنات بشأن القضايا المالية مجدية بالنسبة لسعيد الذي لطالما رغب بتحويل راتب ليلى الى حسابه المصرفي مباشرة , ولطالما كان يردد على طريقة الببغاوات مقولة سمعها بالصدفة حين كان صغيرا من صاحب المحل الذي كانت تشتري له أمه منه البضاعة التي يبيعها في الاسواق وهي أن الرجل هو من ينفق على المنزل فأعجبته العبارة رغم أنها لا تنطبق عليه ولكنها بلا شك عبارة من تلك العبارات التي نحبها ولا نعرف كيف تطبق . فقد كان قولا متعارفا عليه في مجتمعاتنا حين كان تقسيم العمل واضحا بين الرجال والنساء . الرجل عمله خارج المنزل والمرأة في الداخل , و لم يكن مقبولا ان تساهم المرأة ولو بجزء بسيط في مصروف البيت فقد كان ذلك يعد انتقاصا للرجولة أما الآن فالشراكة المالية بين الزوجين أمر محتوم . ففي حين بارك المجتمع شراكة المرأة للرجل ماليا رفض كليا شراكة الرجل للمرأة في العمل داخل المنزل سعيد كان كالآخرين يريد أن يستفيد مما أباحه المجتمع له في اطار هذه الشراكة مع حرصه الشديد على الاحتفاظ بدور السيد داخل منزله يأمر فيطاع . في البداية لم تعترض ليلى على شيء وبالفعل كان راتبها يحول الى حساب سعيد الذي لم يكن يخرج القرش من جيبه إلا بمعاملة رسمية وأحيانا قد لايخرج نهائيا . إلى أن كثرت الاشكاليات بينهما حول ضرورات الانفاق المنزلي والذي تحول فيما بعد إلى عراك بالايدي كنتيجة لتمرد ليلى على تجبر سعيد الذي كان يرفض أحيانا تلبية الاحتياجات الاساسية للمنزل ومن ضمنها الانفاق كما يجب عليها وعلى أبنائه . مع التقدم في العمر وعدم استسلام ليلى واصرار الابناء قرر أخيرا التنازل عن مصادرة راتبها .
بالعودة إلى تحسين المحتفى بقدومه فقد قرر العودة الى الديار فجأة بعد غياب دام عشر سنوات قضاها في ألمانيا التي درس وعمل فيها هو وأخويه الاصغر منه وذلك اثر طلاقه من مارتا زوجته الالمانية .عودته كانت بمثابة احتفال عظيم لوالديه واقربائه خصوصا وأنه عائد ليحمل عروسه التي وعدته بها أمه حين تركته مارتا محبطا متألما .
عاد جازما بأن فشله الزواجي كان نابعا عن عدم فهم واحترام الغرب لعاداتنا وتقاليدنا فالاشكالية كلها في العادات والتقاليد , لذا أرادها عروسا تقليدية بكل معنى الكلمة بلبسها وسلوكها وحديثها . لا يريد شيئا فيها يذكره بمارتا التي رفضت الاستمرار معه لكثرة الخلافات والمشاحنات بينهما مقزما صراعتهما في العادات والتقاليد . ببساطة في الغرب عدم السعادة مع الآخر كافية لانهاء العلاقة والبحث عن السعادة مع شريك آخر مهما كانت محتويات هذه السعادة وهو ما يفسر نجاح زيجات أخرى في مجتمعنا من غربيات لدرجة ارتدائهن الحجاب واتقان لغتنا بتفاصيلها المضحكة .
لم يستطع تحسين طوال سنوات اغترابه عن وطنه أن يتوصل لهدنة مع نفسه تعفيه من ارهاق التفكير بماضيه الأسري المضطرب المليء بالمشاحنات والعراك اليدوي بين والديه , و في الحقيقة خلف لديه كآبة مستمرة لم تنفك تنغص عليه الاستمتاع بحياته الجديدة التي اختارها بنفسه .
بعض الأشخاص قد ينجحون في الهرب من صراعات الماضي وبالفعل يبدأون حياة جديدة محاولين فيها بوعي تام عدم تكرار سلوكات والديهم التناحرية في حياتهم اليومية مدركين أخطاءهم وعثراتهم مستفيدين من تجارب الناجحين أسريا من حولهم , في حين أن البعض الآخر لا يستطيعون تجاوز أسى تلك الصراعات فيحملونها معهم في داخلهم إلى حياتهم الجديدة فتفرض نفسها على سلوكاتهم الحياتية داخل المنزل , وبدون وعي منهم يتقمصون طرق تفكير والديهم وسلوكاتهم المنفرة والمثيرة للصراعات مع الآخرين شركاء وأبناء.
تحسين لم يحالفه الحظ ليكون من الفئة الأولى المتفاعلة بايجابية مع محيطها الصراعي بل كان ممن انتصرت عليه بيئته المعادية فانطلق للحياة موهن القوى تنقصه طاقة الحياة الكامنة فينا تدفعنا نحو النيل من التحديات اللازمة لتقدمنا اجتماعيا ومهنيا فنسعد بشرب لذيذ رحيق نجاحاتنا وتفوقنا فكان منكسر الداخل مصرا على هزائمه النفسية معتقدا بقوى الظلام تضرب الفرح والنجاح بحياته , ممسكا بتلابيب الحظ الذي كان أن تآمر عليه وقضى على حياته مع مارتا التي هجرته بتحريض من عدوه الحظ الذي جعلها لا تكترث لعاداتنا وتقاليدنا .
مسقط رأسه الذي سكنه وتنقل معه في اغترابه وفي جميع محطات حياته قدم نفسه بقوة على أنه خلاصه الوحيد من تخبطه في ذاته الهائمة , لعله أخطأ في مجافاته المتهيأة له فكان أن وجد نفسه بأحضانه ماديا ومعنويا بكل تفاصيله التي أصلا لم تغادره , فحط الرحال في منزل والديه من جديد باحثا عن رابط يجذر اقامته بعمق ويمنحه طمأنينة العودة والقبول معترفا ومنقادا لسطوة التطرف في الانتماء القبلي غير آبه لسطوة المنطق . أحيانا يبدو القبول المجتمعي أكثر أهمية وأمنا من حس المنطق مهما كانت شروط القبول مخادعة ومجنونة ومليئة بالكراهية والظلم .
البحث عن المرأة الغير شريكة كان الخطوة الأولى لصنع اندماجه القبلي القائم على الوجود الحصري للرجل فيه . لا أسهل من تحقيق متطلبات هذا القبول في مجتمعاتنا العربية يكفي أنك الرجل فيه لتمتلك الكثير من الامتيازات كالاحترام والطاعة والوثوق برأيك .
ردينة كانت النمط الأكثر شعبية بين ذكور مجتمعه فقد كانت بيضاء قصيرة ومكتنزة منقبة لا تسمع صوتا لها , لا تستطيع رؤيتها لوحدها ابدا . تعرف إلى أهلها عن طريق أمه التي رشحتها له فهي ابنة احدى جاراتها القريبات منها والتي لم تسمع صوتها يوما بسبب خجلها الشديد الذي يعتبر مؤشرا هاما على صلاح تربية الأهل . وبالنسبة لتحسين فقد أرادها منكسرة لتضرم شعوره بالتفوق صامتة لا تثرثر إلا عن أحاديث الستيريوتيب النسوي الرائج لدى نساء مجتمعه.
كان فخورا جدا بالتعرف إلى أهلها المتزمتين في تربيتهم وإن لم يستطع الحديث معها منفردا ولم يتعرف إلى ردينة التي تختبئ وراء النقاب , بل على العكس هو ما أثار احساسه بالفخر والتفوق .
جرت مراسيم الزفاف كما شاء, واحدة للرجال وواحدة للنساء كدليل على الالتزام بحسن السلوك المجتمعي . وما لبثت ان انفضت الجماهير من حوله ليخلو أخيرا إلى ردينته الملاك التي ستكون طوع أمره مدى الحياة . الملاك الذي سيعيد الطمأنينة إلى نفسه ويجمعه بشتات نفسه من جديد دون اثارة خوفه من الندبة واحتمالات فشله في الاستجابة لمتطلبات الشراكة في العلاقة الزوجية كالاحترام والوثوق برأي الآخر فقد أعفاه الارتباط بردينته من كل هذه التخوفات .
فجأة كل ما حلم به قد هوى إلى أسفل السافلين ردينة لم تكن بكرا رغم أنه لم يسبق لها الزواج . الضرب المبرح جعلها تقر بالفاعل .
أعادها إلى أهلها مهشمة تماما ولم تعرف الأم كيف تدافع عن ابنتها وعن نفسها فتقدمت الجدة منه تخبره وإن يكن , فالفاعل أباها ولم يكن أحدا غريبا . الأب الذي اختفى من المشهد فارا خارج الديار .
كان دفاعها بمنتهى القسوة أفرغت نفسها به من أي محتوى إنساني وأخلاقي راسمة حدودا بشرية مغرقة في محو الوجود النسوي . فهل كانت تعتقد بالتماهي البشري مع مجتمع الدجاج الذي يقدم فيه الديك على أنه زوج كل دجاجات المزرعة بغض النظر عن صلة القرابة فالكل متاح في حظيرته . كيف وصلت إلى هنا هل يمكن للادمان على سحق الذات أن يولد قناعات جديدة قادرة على تحدي العرف الديني الغير ممكن الاختراق ويقف في وجه جميع الأعراف الاجتماعية إلى حد طلب الاعتراف بشرعيتها . قناعات كان ملهمها الاغراق في نفي الذات المنكسرة على مدى عصور في بيئات أغلقت على نفسها الابواب بحجة الالتزام بالعرف الديني بشكله المتطرف المفرغ من نزعته الانسانية المطالب بالرحمة والاحترام والحب والايثار . الصدمة جعلت تحسين ينكفئ على ذاته معتزلا التعاطي مع الآخرين صامتا ساهم النظرات لا يغادر غرفته رغم كل محاولات الأهل والأصدقاء فقد شعر بأنه فقد طريقه في الحياة ولم يعد قادرا على المواصلة ببوصلة زائفة صنعتها له هزات الحياة وتقلباتها معه دون أن يسعى لامتلاك بوصلة حقيقية يصنعها بنفسه يضع فيها قناعات مدركة بشكل صحيح بدل تكهناته عن الصح والخطأ المجتمعي التي اختبر زيف معظمها فكان عليه أن يعيد بناء تصوراته حول كل شيء في حياته طالما أنه يملك الفرص لذلك فقد كانت أرضه صلبة وما عليه إلا بناء أساسات صحيحة كما يفعل في عمله المتعلق بالهندسة .
أحاديثه المفتوحة مع والديه بعد الحادثة كانت تنبئ بتغير واضح في شخصيته, تغير حدث بشكل قسري. فعلى الرغم من احساسنا بالضعف واستمراء البقاء في حضن والدينا أطول فترة ممكنة إلا أننا في النهاية وتحت ضربات التجارب ننضج رغما عنا وتصقل رؤيتنا للحياة بقدر كثرة التجارب وتنوع البيئات التي تختبرنا . بالامكان أن نفقد توازننا في البيئات المغايرة التي نعتبرها معادية وغير ممكنة إلا أننا سرعان ما نبدأ بالكف عن اجراء المقارنات والتي أحيانا تصبح لدى البعض مقارنات معادية ومتطرفة تحجب القدرة على التطور والتأقلم فتؤدي للانسلاخ والتقوقع في غيتوات الذات والعشيرة وأحيانا قد يصل البعض للتطرف الفارقي لصالح البلد المضيف على حساب التفرد الصحي للثقافة الخاصة بكل شعب ويتم التحول إلى الكارهين لذاتهم .
لم تكن المشكلة في خياراته وانما في ذاته وفي وعيه المضطرب الذي لم يقدم له المساعدة اللازمة ليحقق تأقلما ناجحا .
في سنوات زواجه الثلاثة من مارتا لم يدر في خلده ولو لمرة واحدة أنه لربما هو بحاجة للقليل من المرونة فيما يتعلق بالتعاطي مع القضايا الحياتية داخل منزله الذي حاول فيه تطبيق ما تعلمه في بيئته الشرقية السابقة عن غير قصد منه رغم انزعاجه وهربه من تلك الأجواء إلا أنه لم يملك التغيير لأنه لم يملك البديل أصلا , فكان كل ما فعله هو نقل تعلم دون مواءمة مع الشروط الاجتماعية الجديدة وهو ما لم تتقبله مارتا صاحبة الشخصية المستقلة والغير آبهة بقيود الانفصال الغير موجودة أساسا في مجتمعها فقد كانت معنية فقط بتحقيق الانسجام بينها وبين شريكها في العلاقة دون أي اعتبارات أخرى كغيرها من نساء المجتمع الغربي اللاتي يمتلكن القدرة على رسم خطوطهن الحياتية بوضوح ولا شيء لديهن يعلو على امتلاكهن لذاتهن ولسنا مضطرات الى الاختباء والهروب والسكوت . لايوجد تابوهات كل شيء يمكن الحديث عنه للولوج الى حلول مناسبة فالتركيز دائما على صالح الذات الانسانية الغير آبهة بأي نمط اجتماعي تكبيلي والذي يمكنه أن يجرد صاحبه من حقوقه المشرعة انسانيا باعتباره من أسمى المخلوقات على الارض لكونه مخلوقا قادرا على تطوير مفاهيم الحق والخير والجمال .

1