على أعلى صخرة في مدينتي أجلس، أتأمل منظر مدينتي الصغيرة. ليس لمدينتي سر يذكر، غير ذكرياتي التي خبأتها فيها، وجوه الناس المتشابهة تشعرني بالحنين إلى ماضيها، ابتهالات المصلين، أبواق السيارات، صراخ المارة والمسابح الملونة، المدلاة على مداخل دكاكينها.. جميعها تشدني إليك. مضت السنون ولازال وجهك يطل من خلف الثريا، تحيط به وجوه تشبهك. طيفك لا زال يستوطن في نفسي وفي المدينة. أراه في وجوه آلآلف الأطفال، يسكن الواحات.. يجوب الجبال وضفاف الأنهار. طيفك نبضٌ لكل مدينتي.
همست للنخلة بجانبي: "من الأرض إلى السماء هي الرحلة"، رحلتنا ورحلتك ياصديقي. انظر إلى السماء.. إلى وجهك الملائكي البريء من خلف الثريا، اشتاق إليك، إلى لعبنا في قفز الحبل، افتراشنا الأرض مساءً ونحن نعد النجوم ونثرثر عن الخرافات ومعنى القمر، وجلوسنا أمام دكان السيد قاسم ذي البطن الكبير، كما يحلو لنا أن نسميه. بعيون لامعة نرتجي عطاء قليلا من المال مقابل مابعناه من المسابح، فنطير فرحًا كأننا ملكنا العالم بأسره لنشتري القليل من الحلوى وندخر الباقي ليوم آخر.
اشتاق إليك..اشتاق لصوتك ياصهيب، صوتك المعزوف على نغمات ارتطام حبات المسابح بين يديك، اشتاق للدمع في عينيك إذا لم تبع شيئا.. اشتاق إلى خوفك من عقاب ذي البطن الكبير.. اشتاق كم اشتاق. لا زلتَ تطل عليّ تزورني من خلف الثريا، صرت تملك جناحين كأجنحة الملائكة، تطير بهما بعيدا عن عيون البشر، كم قلتُ سأحمي عيون الصغار، وأزرعُ نخلا تعلق عليه الأماني.. أماني الصغار فقط، وأحفر بئرا أروي به نخيل الدار.
في كل يوم يردني الحنين إليك، لكأنني رأيتك بيننا ليلة الأمس. في الأمس ياصهيب جلست في مقهى المدينة أتأمل حركة السيارات والمارة. أمامي فنجان قهوتي، لم أحتسِ منه سوى رشفات قليلة، أتأرجح بين الماضي والمستقبل وأنسى الحاضر، وأنا أدفن رأسي بين راحتي، لأهرب مع شرود بلا نهاية أو قرار، حتى هزَّني صوت رهيب. صوت سيارة تلاهُ صراخ. تجمهر الناس، خرج الجميع من المقهى وخرجت معهم لأسمع كلمات حشرجة غاصت في ذاكرتي فلن تبرحه ما حييت " حادث... طفل.... كان يبيع في الطريق... صدمته سيارة فمات".
تخطيت الزحام أدوس بقدميّ أزهارا بريَّة تناثرت في الطريق، رحت ألملمها وأمسح أوراقها حتى وصلت إلى جسد يتمدد على قارعة الطريق، عمره عشرة أعوام، من عمرك تماما يا صهيب، وجهه صُبغ بالأحمر القاني مثل وجهك يا صهيب. اقتربت منه أكثر وأكثر، جلست إلى جانبه، وأمسكت يده، حرَّكتها ولم تستجب، هززتها بقوة ولم تتحرك. نثرت ما لممتُ من الأزهار على جسده، رفعت رأسه، ووضعت خدي على خده وبكيت. بكيت ألما..بكيت شوقا إليك، وصرخت لمَ لم تحموه؟ لماذا لم تحموا صهيب؟
أطفئوا الشموع فلتحترق كل الضمائر، ولتنزف كل العيون فصهيب قد مات اليوم.. اليوم مات صهيب وانتهى الأمر. قبلته على الجبين ليحملوه بعيدا مني... بعيدا؛ بعيدا إلى حيث لا أدري. لمحت صبيا يقف متأملا مذهولا لما يحدث. اتجهت نحوه حملته وركضت مسرعا حتى أنهكتني قدماي. جلست على هذه الصخرة، احتضنته بشده وهمست في أذنه: " لا تكن مثل صهيب.. إن نجوت كما نجوت أنا زمانا، فربما تهلك غدا كما هلك اليوم صهيب، سأعيطك ماتريد، لكن لا تبع مجددا في الطريق.
ياويح قلبي كم يحن إلى صهيب ويبكي. يا ويح قلبي إن تركتك بعد اليوم تخرج إلى الشارع لتبيع حاجاتك.. وحياتك، إن نجوت من السيارة لن تنجو من شر اللصوص أو مكر الذئاب من البشر.. أرجوك لا تخرج حبيبي .. عدني يا صغيري... بالله عدني.. عدني حبيبي.. أواه كم أخشى عليك، فأنا من عرف صهيب وأنا من شق معه الطريق... قل لي ما ذنبه بربك؟ أكان الذنب ذنبي؟ لم أحمه كما ينبغي... أخنتُ وعدك ياصهيب؟
رباه ارحمني، أخُنْتُ وعدي لنفسي من سنين؟ أخنت الصديق... أخنت عيون البائسين؟؟ لِمَ لا تجبني يا صغيري؟؟" التفت إلي الصبي مذهولا: "عماه أنا لا أبيع شيئا، أنا اشتريت زهرة بيضاء دمرتها أنت بعناقك الشديد."ابتسمت إليه ماسحا يدي على شعره الأسود الطويل، ليضع يده الباردة على خدي وهو يقول: وأين ابنك صهيب؟ لماذا تبكي عليه؟ ابتسمت مجددا وقلت له: كان صديقي، كان ممددا بلا روح على ذلك الطريق، ألم تره؟ قال ببراءة: حينما اشتريت منه كانوا ينادونه سعيد...لم يكن اسمه صهيب كما تناديه..!!
خلف الثريا!!
بقلم : إيناس ثابت ... 27.02.2018