بعد نشر روايتي «حين تعشق العقول» و«هجرة الآلهة والمدائن المجنونة» أصدرت الكاتبة والأكاديمية اللبنانية ناتالي الخوري غريب مجموعة قصصية بعنوان «العابرون» (دار الإبداع ـ بيروت). وهي قصص لا تنتمي إلى ما أسمّيه «الحكي العمومي» الذي يُحيلُ على ذاك النوع من الكتابة الأدبية التي تزعم أنها تقول الإنسانَ والعالَم، ولكنها تصمت عنهما فلا تلامس منهما إلا القشورَ، وإنما هي قصص واعيةٌ بوظيفتها الثقافية في الوجود، ذلك أنها تلامس الجوّانيّ في الإنسان: أعني الإنسانيَّ فينا الذي تراكمت عليه أتربة العادة وخطابات الاستهلاك وغيّبته في قبوِ منسياتنا، أو هي غيّبتنا نحن عن عادةِ الإحساس به.
تقول قصص «العابرون» ما ينقص حضورَنا السعيد في هذا الكون، القيمة. فكلّ قصة منها تُمجِّد إتيقا جديدة، تُمجِّدها لتجرَحَ بها اطمئنان القارئ إلى مجريات واقعه الذي اهترأت فيه أغلبُ قِيَمه، بل تجرح فيه حقيقتَه بكلّ ثوابتها، وتدعوه إلى صوغ حقيقة مناسبة لواقعه، لأنّ مشكلة المواطن العربي الراهن هي أنه يعيش حقيقة لم يخترها، إنه هو واقع في وَهْمِ حقيقة لا يعرفها، وراضٍ بتعبيراتها السياسية والنفسية والاجتماعية والثقافية والدّينية الثابتة والمكرَّسة، بل هو عاجز عن الخروج منها ومساءلتها وإحراجها.
ولأن مهمة الفن الكبرى، على حد رأي بارت هي عدم التعبير عمّا هو معبّر عنه، أي البحث دائما عن موضوعات جديدة لم تُقَل من قبلُ، فقد تكفّلت قصص ناتالي الخوري غريب بزرع الشكّ في يقينيات قارئها، وبتنبيهه إلى اضطراب أيامه بين مطالب روحه ومخالب جسده الاجتماعي الاستهلاكي الحديث. ومن ثَمَّ فهي كتابة ضدَّ الموجود بكلّ تصريفاته المألوفة، تتجاوزه لتقترح علينا إمكانَ حياةٍ جديدةٍ تسوسها قِيَمُ الحبّ والتسامح واحترام كرامة الكائن، ثم هي لا تنسى أن تدافع عن هذه القيم عبر طرائق فنية لا تكتفي فيها القصة بالاحتفاء بفتنةِ حكايتها فقط، وإنما تجعل من وَكْدِها الاحتفاءَ بفتنة تعبيرها، تفعل ذلك عبر الجمع بين عنصري القيمة والفن جمعًا أليفًا محمولاً في جهاز لغويّ يتوسّط الشعر والنثر، فلا يوجد في لغة هذه القصص غموضُ الشعر ولا هذرُ النثر، وإنما فيها قاموس خاص ذو مناخات وجوديّة تشيع بتُؤدة في أرجاء الكتابِ، لتؤكّد أنّ مطلب الحقيقة إنما هو مطلب حكايةٍ، وما حقيقة الإنسان إلا حكايتُه، لكأنّما الحقيقة لا توجد في الواقع ولا نعرف سبيلا إلى تأكيد حضورها بيننا إلاّ بالحكي، وهو ما نجد له صورةً وتمثيلاً في قصة «عودة الابنة الضالة» التي نقرأ فيها القولَ: «ليس كلّ من صلّى وناجى أصبح مؤمنًا، ولا كلّ من داجَى وتعثّر أمسى كافرًا، فبين المنزلتين منازل كثيرة يلعب فيها الطين لعبة العبث، تارةً تسييرًا وتارةً تخييرًا وتارةً كسبًا». وربّما يدعم هذا المنحى حال بطل قصة «جريمة الناسك» في قوله: «أنا الهارب من قدره أبدًا. وحيدًا أبحث عن ذاتي التي أضعتها يومًا. أنا ذلك العابر الذي يحمل في يمناه قنديل ديوجين، وفي يسراه يحمل حَدْسًا لم يصل إليه النور. وما أبصر الحفرة المستطيلة في الدرب الطويلة».
وفي السياق ذاته، تُمثّل قصة «الغريبان» بحثًا «جِبْرانيًا» في الحبّ بوصفه مطلبَ حريّةٍ، فـ»لم يكن الحب يوماً قيداً» وإنما هو نشدانٌ للآخر في عالَم مكتظّ بالكراهية. وقدرُ الحبّ أن يكون محمولا في تجربة مُرَّةٍ، بل لكأنّه لا يتخلّق إلا من تجارب الخسران والغربة، غربة الإنسان عن نفسه في حضارة متلهّفة بكلّ عتادها التكنولوجيّ الحديث لإفراغنا من حكاياتنا وتحويلنا إلى كيانات بكماءَ تمشي في متاهات مظلمةٍ مدفوعةً في ذلك بمُتْعةِ العُزلة على ما نُلفي في قول البطلة أوفيليا حبيبة الراعي: «نحنّ الرّحّالة العابرين في الدّنى، لا أرض لنا ولا وطن… أوّل درس نتعلّمه هو إتقان لعبة الخواتيم، حيث تُبنى الانطلاقة على لا وعد، ولا التزام، وتحوّل المعالم. نتعلّم نَفْيَ كلّ وصل مُلزم».
«العابرون»… كتابةُ الحضورِ السَّعيدِ في الكون!!
بقلم : عبدالدائم السلامي ... 10.10.2017