البحر ذلك الملهم للمبدعين رسامين وموسيقيين، مسرحيين وشعراء وأدباء، يظل دائما عالما أشبه بالأسطورة المتجسدة، في جوفه تنام حكايات لا تنتهي، حكايات استلهمها الكثير من الكتاب واستخرجوها في مشهد شبيه باستخراج اللؤلؤ ليبقى شاهدا أبديا على عظمة هذا “الكائن”، الذي مثل محور رواية الكويتي طالب الرفاعي بعنوان “النجدي”.
يمهّد الكويتي طالب الرفاعي لروايته “النجدي” بمقطع من كتاب “أبناء السندباد” للقبطان الأستراليّ ألن فاليرز يصف فيه مدينة الكويت وشاطئها وحركة السفن والتجارة فيها. وذلك في إشارة إلى دور المدينة التاريخيّ في التجارة البحريّة مع دول أخرى، وكذلك من باب التأكيد على التجذّر في عالم البحر والصيد والغوص، والبحث عن الدرر التي يجود بها.
تلبية النداء
يمزج الرفاعيّ في عمله بين الجانبين التخييليّ والوثائقيّ، ويحاول اختيار نقاط وشخصيات تاريخيّة موثّقة، ثمّ يسعى من خلال التخييل إلى رسم صورة روائية عن العصر الذي يقاربه بمختلف تفاصيله، الاقتصادية والاجتماعية والفنية، وجوانب من حضور ذاك العصر الذي يتبدّى بعيداً رغم قربه، مثيراً أسئلة عن غياب آثاره وجمالياته في الذاكرة الحديثة التي تبدو منقطعة عن إرثها بصيغة ما.
ينوّه الرفاعيّ إلى أنّ روايته، الصادرة عن منشورات ذات السلاسل، تلوّن واقعها الفنّيّ بما قد حدث للنوخذة علي ناصر النجديّ، مستندة إلى وقائع حقيقية جرت له يوم الاثنين 19 فبراير 1979. ويكون تنويهه بمثابة إجراء نوع من التشبيك بين الواقع والخيال، بين التاريخ والراهن، بين ما كان وما افترض أو تخيّل حدوثه.
يحدّد صاحب “الكرسي” الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً موعداً لانطلاق أحداث روايته، المكان هو شاطئ الكويت، حيث يتذكّر بطله النجديّ طفولته وصباه، يكون نداء البحر له افتتاحية الرواية والذكريات، “تعال”، كلمة يتردّد صداها في وجدانه، تمنعه من الراحة والنوم، تبقيه متأهّباً للانطلاق وتلبية النداء، يكون مدفوعاً بعشقه للبحر وتوقه إلى الإبحار في عوالمه ومجاهله.
يبرز الرفاعيّ كيف أنّ بطله عليّ النجديّ يقع في عشق فكرته بداية عن البحر، ثمّ تلحّ عليه النداءات وتتتالى، تدفعه إلى أقاصي الحلم، تغريه بطريقة سحريّة، فلا يكاد يهنأ إلا بالقرب من البحر، والتأمّل فيه، ومراقبة حركة السفن والقوارب والبحارة على ساحله، يصل إلى مرحلة يكون فيها البحر منزله الدائم الأجمل يقضي فيه أروع أوقاته.
تخطر له أسئلة طفوليّة تلحّ عليه وهو يراقب السفن الراسية على ساحل البحر، يسأل نفسه “ما الذي يفعله البحر بالسفن الكبيرة فتصبح صغيرة في حضنه؟”. ويبقى سؤاله منتظراً إجابة حتّى يمضي في طريقه للبحر باحثاً عن كينونته وهويّته في مياهه وكنوزه، محقّقاً رغبته في التوحّد معه كعاشق يشتاق إلى معشوقه.
يكتفي النجدي من الدراسة في طفولته بتعلمه القراءة والكتابة ويطلب من والده مرافقته وأن يصبح مثله نوخذة، أي قبطان السفينة، وحين يجد والده إصراره على ذلك، ويستشعر شغفه وعشقه للبحر، يلبّي مطلبه، فيصبح أصغر بحّار مغامر، يعاون قادة معروفين بصرامتهم وتفانيهم في عملهم، يتدرّب على أيديهم، حتّى يشتدّ عوده ويصبح نوخذة قويّاً يقود سفينته وبحّارته في غمار البحر.
النجديّ هو الراوي الذي ينقل تفاصيل من يوميّاته على سطح سفينته، وفي مدينته يكون الشاهد على الكثير من المتغيّرات التي اجتاحت حياة المدينة وأهلها قبل اكتشاف النفط وبعده، وكيف كان الساحل مفتوحاً على العالم كلّه، والسفن المبحرة مع الغوّاصة الباحثين عن المرجان، والبحّارة التجّار بين الدول، وسيلة لاكتشاف العالم.
يرفض النجدي توصيف البحر بالغدار، فالبحر بالنسبه إليه هو الصديق الذي لا يغدر، الوفيّ الذي يعتبره عشقه المتجدّد، يقصده لذاته لا لأيّ شيء آخر، يغدو مبتغاه الأثير الساحر، يناجيه مناجاة الحبيب للحبيب، يحفظ أوقات الأنواء والرياح والجنون والتوتّر والهدوء والاستقرار، كأنّه يشعر به في داخله، يتماهى مع أمواجه، يستمتع بمشاهدتها والاستماع لموسيقاها الحنون.
قبلة وبوصلة
يستعيد الراوي السبعينيّ ذكريات طفولته، يتذكّر حين أخبره والده بأسى أنّ البحر لا يعرف صديقاً، وامتناعه حينها عن سؤاله لماذا لا يعرف البحر صديقاً؟ ويشعر بأنّ الذكريات تستوطن رأسه، كما يناجي والده الراحل متمنياً لو أنه عاش وتأكد أن ولده النجدي صادق البحر، وأن البحر قبل صداقته وأعطاه حياة وعزاً، ويستدرك أنّ ذاك النداء السرّيّ ظلّ يجنّنه، وأنّه لم يعرف إلا البحر قبلة لمقاصده.
يتصفّح النجديّ كتاب صديقه القبطان الأستراليّ ألن فاليرز الذي أرّخ فيه لرحلته معه على سفينته “البوم بيان”، يقلب صفحاته، يتأمّل الصور التي التقطها له وللبحارة ولأجزاء من سفينته والموانئ، تراه اشتاق لذكرياته مع البحر فرجع إلى الكتاب، يقلب مع صفحاته محطات عمره، يعيش أجمل لحظات حياته، يصف رحلته تلك بأنها لا يمكن أن تنسى.
يرافق فاليرز النجدي في رحلته لشهور، وذلك بناء على طلب من المندوب الإنكليزي حينها، يدوّن أدقّ التفاصيل عنه وعن سفينته وبحّارته، وعن علاقته الوطيدة بالبحر، وقيادته المميزة لطاقمه، وقدرته ومرونته المدهشة في التعامل مع جميع المواقف التي يتعرّض لها.
يلقي الرفاعيّ بعض الضوء على صناعة السفن في الكويت قبل الحرب العالميّة الثانية، والأدوات والسبل التي كانت مستخدمة في تلك الصناعة، وواقع أنّ تلك الصناعة وصلت إلى نقطة خطيرة من الضياع والاندثار، كما لم تستطع أن تقاوم مستجدّات العصر بعد ذلك.
كما يعالج الرفاعي التغييرات التي أحدثها النفط في حياة المدينة وعادات وتقاليد أبنائها، فاندثرت التجارة البحرية التي اشتهر بها أبناؤها بتلك الطريقة الشائعة والمعتادة، لتحلّ محلّها تجارات متنوّعة أخرى، وانتقل الناس إلى إيثار الراحة بعيداً عن مشقّات البحر وأهواله، وكيف أنّ ذلك لم يرق لبعضهم، كحالة بطله النجديّ الذي ظلّ وفيّاً لشغفه بالبحر وعشقه له.
يسعى الرفاعيّ إلى توثيق محطات من تاريخ الكويت، وتوثيق مفردات ومصطلحات من معجم أبناء البحر وقاموسهم الخاصّ بهم، وكيف أنّ ذاكرة البحر وذكريات البحّارة، وذاكرة الخليج “واهب اللؤلؤ والمحار”، تمثل جماليات حاضرة في الحاضر والمستقبل، وهي جماليات استحال تغييبها ونسيانها، لأنّها تشكّل أرضيّة مؤسّسة للهويّة والوجود.
نداء سري يطلقه البحر يقود طفلا إلى الحكمة !!
بقلم : هيثم حسين ... 17.06.2017
المصدر:العرب